الأحد، 12 أكتوبر 2008

وترجل الفارس


وترجل الفـــــــــارس
بقلم / سليمان يبتيت
2008/10/7
لعمرك ما الرزية فقد مال ولاشاة تموت ولا بعير
ولكن الرزية فقد حرٍ يموت بموته خلق كثير

رزئ الشعب الإرتري المسلم بالأمس برزية كبيرة وفاجعة أليمة حين ترجل عن صهوة العمل الإسلامي والوطني فارس أصيل ومجاهد كبير ، السياسي المخضرم والمربي الفاضل والداعية الحكيم ، إنه فقيد الأمة الإرترية الشيخ المجاهد أبو نوال رئيس مجلس شورى الحزب الإسلامي الإرتري للعدالة والتنمية والذي وافته المنية في الثاني من شهر شوال لعام 1429هـ ، فلبى نداء الحق جل وعلا وأسلم الروح لباريها في الخرطوم ، وفي هذا الفقد الأليم أعزي نفسي وأخوتي في الحزب الإسلامي الإرتري وكل المتعاطين للهم السياسي الإرتري ولجماهير أمتنا الإرترية قاطبة على هذا المصاب الكبير والفقد الجلل ، وبفقده نكون قد فقدنا واحدًا من رجالات السياسة المعدودين وأهلنا التراب على حقبة تاريخية مهمة من تاريخ قضيتنا الإرترية ونضالات شعبنا الإرتري الأبي ، فقد كان الفقيد موسوعة سياسية ناطقة وسفراً تاريخياً مفتوحاً ، نقرأ من خلاله تعرجات قضيتنا الإرترية ودروبها المختلفة ، ولست هنا لأعدد مناقب الفقيد ومآثره وتاريخ نضالاته وإسهاماته ، فقد تحدث أخوة كرام عن ذلك باسهاب واقتضاب ، ولكنني أردت أن أشارك في هذا الفقد الأليم بما أرى أنه حق للأجيال القادمة من توثيق وتدوين لهذه الرموز الوطنية وهذه القامات السامقة في سماء وطننا الكبير وهي توالي تناثرها كحبات الخرز الواحدة تلو الأخرى دون أن تنال حظها من التكريم التي هي أهل له .
فالخرطوم التي ضمت ثراها من قبل رمزاً آخر من رموز العمل الوطني الإرتري عشية الاستقلال ألا وهو الزعيم القائد عثمان صالح سبي ولئن كان سبي قد غيبه الموت ووطنه يرزح تحت نير الاستعمار الإثيوبي الغاشم حينها , فكان من المستساغ ضرورة أن يوارى جثمانه الثرى على أرض الخرطوم ريثما يستكمل رفاقه نضالهم المرير لاستعادة أرضهم السليبة والمغتصبة من براثن المحتل ، ولكننا اليوم أمام موقف مماثل حين تحتضن الخرطوم ثانية رمزاً وطنياً آخر ومناضلا جسوراً وداعية مثابراً ومجاهداً مخلصاً ، يلقي عصا الترحال ، في رحاب العاصمة السودانية الخرطوم ، ومكمن المفارقة أن الوطن اليوم لم يعد سليبا وليس ثمة موانع تحول دون أن تسير في ركاب جثمان الراحل المقيم جموع المعزين في مسقط رأسه "صنعفي " هكذا كان يفترض والوضع القائم ينبئ بذلك ولكن الوطن مختطف من قبل زمرة مارقة وشرذمة تولت زمام الأمور على حين غفلة من الزمن ، وتلجمك الغصة ، ويزيد الجرح النازف ألماً حين نعلم أن رأس النظام كان ممن تتلمذ على يد الشيخ أبي نوال ومحى أميته العربية لديه إبان التحاقه بالعمل العسكري بالميدان ، هكذا روت لنا المصادر الثقات ، فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان .
لقد رحل الشيخ محمد إسماعيل وفي نفسه شيئ من حتى ، إذ كان يتوق ويتمنى أن يرى وطنه _ الذي أفنى زهرة شبابه واسترخص في سبيله حياته وكرس جهده ووقته ودعوته ونضاله من أجله _ كان يتمنى أن يراه وقد تحقق له السؤدد الحق والتمكين الصادق غير المنقوص والعافية الكاملة ، وطن يأمن فيه الخائف ويجار فيه الضعيف ويسعد فيه الناس على اختلاف مشاربهم وطوائفهم وإثناياتهم ومذاهبهم وطن تظلله سماء العدالة ويتفيأ ظلال نهضته وتنميته أبناؤه الخلص ، وطن تسوده القيم السمحة فلا تصادر فيه الحريات ولا تنتهك فوق أرضه الحرمات ، وطن سكبت من أجله العبرات ومزقت الأشلاء و الجماجم ، وطن كان مهره أرتال من الشهداء والأنفس الزاكيات ، كان هذا الوطن يسكن في سويداء قلبه وقد رحل ولما يتحقق حلمه ، ولا سبيل اليوم ولا مناص من تحقيق أمنية الشيخ ، إلا بالسير على ذات الدرب التي سلك وذات النهج الذي اختط والتزود بالنضال والصبر على المكاره ، تخليداً لما قد عاش له الفقيد وتأسياً بسيرته العطرة وسمته ووقاره .
في مناسبة تأبين القائد الراحل بتاريخ 3/10/2008 ، والتي أقامها الحزب الإسلامي الإرتري للعدالة والتنمية بالرياض استوقفتني في مداخلات المشاركين في العزاء والتأبين أن كل من تداخل كان يأتي بشيئ مختلف عن الآخر وهم يتناولون بالسرد تجربة الشيخ وسيرته عبر مسيرته النضالية الممتدة ، فهذا يتحدث عن ثباته وشموخه في الشدائد والملمات وذاك يتناول ما يتمتع به الراحل من ذاكرة فولاذية لا تشيخ رغم المحن والابتلاءات والمرض وعامل السن ، تحتفظ بأدق التفاصيل باليوم والتاريخ والساعة ، وآخر يتناول صدقه ونزاهته وعفة لسانه ويده وسلامة صدره وثباته على المبادئ . وقد كان لافتاً الحضور الطاغي على المناسبة من جميع الأطياف المختلفة المنضوية في إطار التحالف الوطني الديمقراطي الإرتري ومن هم خارجه والمستقلين ، القاسم المشترك بينهم هو الفقد الجلل الذي خيم على جو المكان . واستشعاراً بواجبهم تجاه الراحل تنادى الجميع وهبوا للمشاركة في سرادق العزاء ، وهذا أقل القليل في حق القامة السامقة والرجل الأمة محمد اسماعيل عبده . ولعل في ذلك بشرى خير عاجلة للراحل المقيم فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "حين مر عليه بجنازة رجل من الأنصار فاثني عليه خيراً فقال : وجبت ، ومر عليه بجنازة أخرى فأثني عليه دون ذلك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبت ، فقالوا يارسول الله وما وجبت : قال : الملائكة شهود الله في السماء وأنتم شهود الله في الأرض " . ولعل في هذه الشهادات التي خرجت طواعية دون إكراه لقائليها وملأت الآفاق ثناءً على الفقيد وامتداحاً لنهجه وسيرته وخلقه وسلوكه وربانيته لقبس من وضاءة وجهه وسلامة صدره وحسن ختامه ، نسأل الله له القبول والرضوان .
ولأننا دوماً نفاجأ برحيل واحد من رموز وطننا الكبير ممن أسهموا في تحريره من براثن المحتل ، ولم يتوانوا في خدمته في مختلف المواقع ، فحين ينعى الناعي رمزا وطنياً نستنفر خفافاً وثقالاً لإبراز محاسنه وتخليد مآثره ، وهذا عمل جميل وعظيم بلا شك ، ولكننا حين نضغط على الذاكرة ونستدعي التاريخ في لحظة الفقد والفقد وحده نظلم الفقيد ، إذ لم نسارع لتكريمه وتدوين منجزاته وإسهاماته النضالية في شتى المجالات والأصعدة قبل لحظة الوداع ، ما يشعر بالحرج وتأنيب الضمير حيث كان من المفترض والطبيعي أن يظل سفره بيننا مفتوحاً وأعماله تتحدث عن نفسها . أقول هذا و قد لمست اندهاش الحضور وأنا أتلو عليهم طرفاً من محطات حياة الفقيد ومقتطفات من سيرته النضالية العبقة في مناسبة التأبين سابقة الذكر ، وكأن الناس يسمعون هذا العمل البطولي والمساهمات الوطنية للفقيد للتو بفعل غياب التدوين والتوثيق .
من هنا أدعو كل الحادبين على مصلحة التراث الوطني ولا سيما ممن كان لهم باع في مسيرة العمل الوطني التحرري في مختلف المراحل النضالية ولا زالوا بيننا _ نسأل الله أن يمد في أعمارهم _ أن يوثقوا للأفذاذ والقيادات التاريخية وللمراحل والشخوص المؤثرة والفاعلة وللجنود المجهولون خلف الكواليس من قادة السرايا والكتائب والفصائل وكل من كان له دور في دحر جبروت الطغيان بالقلم و اللسان والبندقية ، فهل أنتم فاعلون ؟

رحل الشيخ الوقور القائم الصائم والسياسي المقاوم أبي نوال وقد استرد الباري جل وعلا عاريته ولا راد لقضائه وقدره ولا مناص ولا مهرب من التسليم لما أرد ، ولا حول ولا قوة إلا بالله – ولكن دعوته ومنهجه باقيان بحول الله تعالى ، نسأل الله تعالى أن ينزله منازل الشهداء وأن يرفع درجته في عليين لقاء ما قدم لدينه وأمته ووطنه ، و أن يبارك في عقبه وذريته وأن يوفق أخوته في قيادة الحزب الإسلامي للعدالة والتنمية للسير على خطاه وتلمس سيرته ومواقفه ، وأن يلهم آله ومحبيه وتلامذته الصبر وحسن العزاء ، وإنا لله وإنا إليه راجعون .

ليست هناك تعليقات: