08/05/1431 الموافق 21/04/2010
ارتريا دولة تقع في منطقة القرن الأفريقي ، كأنها ترقوة تطرز كتف القارة السمراء ، وهي بالتأكيد رئة الوطن العربي ، شرف الله هذا البلد بهجرة الصحابة إليه ، حيث وصلها الإسلام قبل المدينة المنورة ، ويذكر المؤرخون مثلا أن مسجد الإمام الشافعي في مدينة مصوع يعتبر أحد أقدم المساجد في القارة الأفريقية.
وكانت سواحلها تسمي - ببلاد الطراز الإسلامي - وهي واحدة من أجمل البلدان الأفريقية ، وإن كانت تعاني بل تئن من وطأة الحروب التي اشتعلت فيها ، ولا تكاد تخمد ، وهي حروب قد فرضت علي شعبها ، ربما بسبب موقعها الخطير والمطل علي الجزيرة العربية ، حيث يمكن المشاهدة من العاصمة أسمرا بالمناظير المكبرة جبال مكة ووديانها ، وقد وصفها النبي عليه الصلاة والسلام بأنها [أرض صدق] وعرف أهلها بصدق الحديث وصدق المبادئ ..
وكان وعي المسلمين مبكرا جدا بما يحاك لأمتهم الإسلامية ولوطنهم المحسود ، فأسسوا في أربعينيات القرن الماضي حركة إسلامية تطلبتها ظروف وضرورات المرحلة آنذاك تحت اسم ( الرابطة الإسلامية الأرترية ) وقد خاض قادتها معارك سياسية ناجحة لحفظ وحدة البلد وتحريره من المستعمر ، ولما تم وئد الحركة الوليدة بعدَة طرق ووسائل ، ومنها تشريد قادتها ، واغتيال بعضهم سارع المسلمون في ارتريا بتأسيس ( جبهة التحرير الأرترية ) التي خاضت حروب طويلة من أجل تحرير البلد ، وكان ضمن من شيدوا بناء الثورة الوليدة شباب مسلم طاهر متدين نشأ في أحضان جماعة ( الإخوان المسلمين) في مصر والسودان وغيرها ، وعلي رأسهم القائد المجاهد الجسور الشهيد سعيد حسين الذي كان يقاتل في فلسطين ضمن كتائب المتطوعين التي كانت تقاتل اليهود في فلسطين ، وعندما تم الغدر بتلك الكتائب وتم إبعاده إلي بلده التحق بالثورة الإرترية مباشرة ، وكان من قادتها وشجعانها ، وكذالك إخوانه أمثال محمد إسماعيل عبده رحمه ، وحامد صالح تركي أمد الله في عمره .
الحركة الإسلامية الأرترية المعاصرة مبادئ وقادة :
أسست الحركة الإسلامية في بداية سبعينيات القرن الماضي علي يد ثلة من الشباب الغيور علي دينه ، وعلي رأسهم الأخ الأستاذ الدكتور الشاعر والأديب / صالح علي صالح رحمه الله وإخوانه ، وقد جعلت الحركة منهجها الفكري مستندا إلي الحركة الأم ( جماعة الإخوان المسلمين ) التي نهلوا من منهجها ، وتربوا علي أيدي مشايخها ، ولم يفوتهم أن يصبغوها بخصوصيات وطنهم ومتطلباته ، وأن يثقلوها بهمومه ، ويشعلوها بآماله ، فمضوا بها حركة راشدة تبني النفوس ، وتقوم الأخلاق ، وتمكن العقيدة السليمة ، وتسعي لرفعة البلد ، وتحافظ علي ثوابته،كما احتوت القادة الكبار الذين ساهموا في مسيرة النضال الوطني تأسيسا وبناء وتنظيرا وجهادا وتضحية ..
وقد كان هؤلاء القادة قد تعرضوا للتضييق والاضطهاد والسجن والنفي ، بل قتل بعضهم ، وهم يؤدون واجبهم الثوري والنضالي والدعوي ، وذالك علي أيدي حزب العمل الأرتري الذي كان يتبنى أتباعه الفكر الماركسي ، ولم يكن لهم ذنب جنوه إلا محاولة إصلاح الفساد الذي نخر نخاع الثورة ، وتمكن في مفاصلها ، وذالك بفعل العناصر التي تبنت المنهج الماركسي ، وقد بذل هؤلاء المصلحون جهود مضنية للحفاظ علي الثورة منهجا وفكرا ونضالا ثوريا ، ولكن التيار الماركسي كان في تلك الفترة ينتشر في أقطار العالم ، وفي داخل الثورة الأرترية انتشار النار في الهشيم ، وما كان منهم إلا القيام بإقصاء كل من عداهم ، وعندما يأس الشيوخ من إصلاح ( جبهة التحرير ) من الداخل وإرجاعها إلى مسارها الذي حادت عنه أسسوا ( منظمة الرواد المسلمين الأرترية ) كأول تنظيم إسلامي سياسي يظهر في الساحة الأرترية بعد التجربة الأولي مع ( حزب الرابطة الإسلامية في الأربعينات ) وقد وجدوا ثلة من الشباب الغيور علي وطنه قد أسسوا حركة وليدة ( الحركة الإسلامية الأرترية ) وقد انتظم في سلكها في وقت وجيز كم هائل من الشباب المسلم المثقف الواعي والمثقول بهموم وطنه وشعبه، وقد سر المشايخ بهذا الجهد سرورا عظيما فالتحقوا بها هم ومنظمتهم ، فكان الآباء ولا يزالون نعم الآباء توجيها وتثقيفا ، وكان الأبناء خير ضمانة لحماية هذا العمل والسهر له بكل حماسة وقوة..
وقد تنقلت الحركة الإسلامية عبر محطات ومراحل ، فمرحلة التأسيس كانت سرية ، ومرحلة البناء تنقوية ، ومرحلة الانفتاح جهادية ، واليوم هي في قمة نضوجها الفكري والسياسي والشعبي ، وفي قمة تماسكها التنظيمي، وقد حملت في كل مرحلة اسما يناسب ظروفها ومتطلباتها ، فكانت في مرحلة الكتمان ( حركة ) وفي مرحلة التأسيس ( رواد ) وفي مرحلة الانفتاح (جهاد) وفي مرحلتها الحالية ، وهي تتأهب لحكم بلدها ( حزب إسلامي ) شعاره العدالة والتنمية .
رحيل القادة والمؤسسين :
فقدت الحركة الإسلامية منذ تأسيسها عددا من كوادرها وقادتها ومشايخها الذين كان لهم الأثر الطيب في مسيرة الحركة وبنائها وتأسيسها نسال الله أن يتقبلهم في الصالحين ، كما عانى وما يزال يعاني كم هائل من مشايخها ودعاتها قساوة السجن والسجانين ومرارة الحرمان من غير ذنب جنوه ، ولكن هي سنة الأنبياء ، ومسيرة الرسل ، وطريق العبودية المليء بالمكاره ، والمحاط بالأشواك ، وعلي قدر الصبر والاحتمال تتحقق الآمال ، ويبزغ فجر الأنوار ، وتزول الظلمات ، ويتسع ضيق الطريق ، وترفع الكربات ، وتزول الهموم ، ويعانق الدعاة شمس النصر ، ويتوجون بأكاليل التضحيات ، ويريهم الله قدرته في معيته معهم ، وقذف السكينة والطمأنينة في روعهم ، وتتحقق في أرض الواقع مبادئهم ، إن عاشوا عاشوا سعداء ، وإن ماتوا ماتوا شهداء ، يموتون ولا تموت مبادئهم ، يدفنون ولا تدفن آراؤهم .
وقد فقدت الحركة الإسلامية الأرترية في1/أكتوبر/ 2008م الشيخ الرباني العابد القانت الورع الزاهد الشيخ / محمد إسماعيل عبده ( أبو نوال ) رئيس مجلس الشورى[ للحزب الإسلامي الأرتري للعدالة والتنمية ] وقد بكته العيون ، وفقدته القلوب ، فقد كانت رؤيته تسر العيون وتسعد القلوب ، ومن حق المسلمين في العالم أن يعرفوا هذا الرجل القدوة ، فما أحوج أمتنا اليوم أن تتطلع إلى سيرة العظماء ، وتقتبس من نبراسهم ، وتمضي علي دربهم ، وقد كان الشيخ / محمد إسماعيل عبده رجلا صالحا ( نحسبه كذالك والله حسيبه ) وقد تتلمذ علي أيدي مشايخ الدعوة الأولي ، وعلي رأسهم الشيخ المجدد والعالم الفريد مفجر الصحوة الإسلامية المعاصرة ) الشيخ حسن البنا ) فقد كان الشيخ أبو نوال يحرص علي حضور درسه المعروف ( بحديث الثلاثاء) وقد انتظم في سلك الدعوة الإسلامية هناك في مصر وهو طالب علي أرضها ومعه ثلة من الشباب الأرتري ..
ولما تم التضييق علي الدعوة وزج بأتباعها في السجون والمعتقلات أصبح مستحيلا علي الطلاب الوافدين الاتصال بإخوانهم المصريين ، ووقتها كانت تلوح في الأفق تأسيس الثورة الارترية ، فما كان منهم إلا أن التحقوا في صفوفها يدعون إلي الله ، ويجاهدون في صفوفها ..
وقد تقلد فيها/ الشيخ أبو نوال مناصب عديدة ومن أشهرها مسئول ( محكمة الاستئناف العليا ) التي جعل عملها موافقا للشريعة الإسلامية ؛ مما فتح عليه هجوما قاسيا من العناصر العلمانية التي كانت تسعي لإبعاد الدين عن الثورة الأرترية وعن الشعب الأرتري برمته ، ولكنه تحمل كل ذالك بصبر عجيب ، فهو رجل لا تستفزه الأقاويل ، ولا تزعجه الأراجيف ، ولا توقفه الصخور الرواسي ، فهو رجل صاحب همة فريدة وصدر واسع ، وصبر جميل لا تكبحه عن مقاصده قيود الأرض ، ولا صيحات المثبطين ، ولا نداء العاجزين ، لا يلتفت لصغائر الأمور ، لا ويغضب ويحمر وجهه إذا رأى انحرافا أو اعوجاجا مقصودا ، ولا يهدأ له بال حتى تسير الأمور علي مساراتها ، وتوافق طبيعتها وفطرتها .
الطهارة والنقاء :
عرف الشيخ / محمد إسماعيل عبده بالورع والزهد وطهارة اليد، ففي كل المواقع التي تولاها سواء كان في الثورة الارترية التي تولي فيها أعلي المناصب القيادية أو الحركة الإسلامية التي كان قائدها وشيخها و(مراقبها العام) لم يعرف عنه في كل تلك المواقع أن يمد يده إلى فلس واحد من أموالها ، وقد شهد له الجميع بأن كل قرش يعطى له لشخصه في أي زيارة يضمه إلى صندوق العمل العام ، وكان ورعا لا يسأل الناس ، وإذا ضاق عليه الحال ذكر أنه كان يخرج في سبيل الله ما بقي له في بيته ، وقد مرت به في حياته هو وأسرته جوع وعطش وحرمان ، ولقد رأيته كثيرا وهو يتجول بحذائه المقطعة ، وملابسه النظيفة التي كاد القدم أن يتلفها ، كانت الناس تحبه ، وتعطيه الأموال من أجل العمل ، ومن أجله ، فلا يتناول منها شيئا وهو في أشد الحاجة إليها ، لله درك يا أبا نوال .
لذة العبادة ونشوة القلب :
كان فضيلة الشيخ / أبو نوال رجلا روحانيا ، حاضر الدمعة ، رقيق القلب ، سريع التأثر بكلام الله ، عاشقا لقيام الليل ، متيم بحب كتاب الله ، كان قليلا ما يهجع من ليله ، كثير الاستغفار والإنابة ، شديد الخوف من ذنوبه ، أذكر مرة صلينا الفجر سويا في مكان ما ، وبعد الصلاة قلت خاطرة صغيرة لا أذكر موضوعها الآن فرأيت الشيخ يداري دمعه ، ويمسحه بطرف ثوبه ، كان شديد الحياء ، يكره المعاصي ، ويحب الطيبات ، قد ألجم لسانه عن ذكر معايب الناس ، كان يحب الثناء علي الناس بما فيهم من فعل الخير ، ويشجعهم علي الالتزام بالدين ، قد أورثته عبادته لله وانقطاعه له حب الناس وحلاوة اللسان ونور الوجه وضياء القلب، فكان وجهه يتهلل نورا ، ومجلسه يشع خيرا ، فكان كلامه قليلا ، ولكن تأثيره عميقا ، خطواته مباركة ، ويومه مثمر لا يكل ولا يمل ، حاضر البديهة ، قوي الذاكرة ، روحه شابة ، وطرفته حاضرة ، لم يكن يأكل ملئ بطنيه ، ولا يضحك ملئ شدقيه ، ولكنه كان يتبسم ، كأنه فلقة قمر ، رحمه الله رحمة واسعة .
الشيخ والوقت :
كان الشيخ يعرف قيمة الوقت ، ويسيطر عليه ، وينتفع به ، وكان أشد الناس حرصا على ضبط وقته ، فتجده ينجز في يومه ما لا ينجزه عشرات الرجال ، وكان منضبطا في مواعيده ، ويحتفظ بوثائقه ، فهو إنسان مرتب في كل شيء ، في ملبسه ، في وقته وكلامه ، وإذا وجد فراغا في وقته اغتنمه لقراءة القرآن والذكر أو زيارة الإخوان والأقارب ، أو ترتيب الأوراق ، أو الجلوس مع الأبناء ، وقد رزقه الله ذاكرة كأنه اقتبسها من شيخه حسن البنا ، رحم الله الجميع ، فكان تقريبا يحفظ جميع أسماء أبناء الحركة ، وأسماء قيادات الثورة وقيادات العمل الإسلامي في العالم ، من قابله منهم ومن لم يقابله ، ولقد تأسفت جدا ألا أرى كلمة مكتوبة من قادة العمل الإسلامي حول الشيخ ، وخاصة أمثال الشيخ الغنوشي والهلباوي والقرضاوي ، وأزعم أنه تربطهم به علاقة طيبة وزيارات متبادلة.
مرض الشيخ ورحيله عن دنيانا:
الشيخ من مواليد مدينة ( صنعفي ) في ارتريا ، وفيها بدأ تعليمه ، وانتقل منها إلى مصر طلبا للعلم ، وعاد إلى ارتريا يعمل سرا- في العاصمة{ اسمرا} وهي في ذالك الوقت تجسم تحت الاحتلال الأثيوبي - علي مساعدة الثورة ، فلما حاول العدو القبض عليه لجأ إلى أثيوبيا ، ومنها إلى الميدان قائدا ومقاتلا وداعيا ومربيا ، وقد قبض عليه بتهمة العمل الإسلامي داخل الثورة الارترية ، وعذب وحكم عليه بالإعدام ، لكن أجل الله أجله فنجا ، وظل يعمل طوال هذه السنوات بدون كلل ولا ملل حتى ترك الحركة الإسلامية اليوم وقد اشتد عودها ، وقويت شوكتها ، وزاد أتباعها ، وانتشر منهجها ، وقد ختم الله للشيخ محمد إسماعيل عبده خير ختام ، فقد يموت الإنسان علي ما عاش عليه ، وقد عاش للدعوة وبالدعوة وللدعوة ..
وفي السنوات الأخيرة اختير مسئولا لمجلس الشورى في [الحزب الإسلامي الارتري للعدالة والتنمية] وكان قليل الحركة ، ففرغ وقته لعشقه المتجدد ، تلاوة كتاب الله ، وحفظه بالكامل حفظا متقنا ، ومواصلة قيام الليل مع كثرة العلل ، وقد صام شهر رمضان ، وصلى الفجر ، ثم جمع أهله وأوصاهم بالتمسك بالدين ، وأخبرهم أنه يحس أنه مفارق الدنيا ، ثم شرع كعادته يقرأ ورده من أذكار الصباح ، ثم تمدد وتجهز وانتقل إلى رحمة الله .
من أراد التعرف علي سيرة الشيخ فليراجع المدونة التي عملت باسمه تحت عنوان مدونة / الشيخ الراحل / محمد إسماعيل عبده .
رحم الله مشايخنا جميعا السابق واللاحق:
عندما توفي الشيخ محمد إسماعيل عبده اختار الحزب في مكانه أحد أعمدة العمل الإسلامي الارتري الدكتور / صالح علي صالح الأديب والشاعر والفقيه والمنظر وكان نعم الاختيار الموفق ، و كانت المفاجأ أن لحق الشيخ صالح سريعا بشيخه محمد إسماعيل ( وإنا لله وإنا إليه راجعون ) والدكتور صالح هو من مؤسسي الحركة الإسلامية الارترية.
وإن شاء الله سوف نعرِف به وبإخوانه المسلمين في العالم في المقالة القادمة
المصدر : موقع السودان الإسلامي