الخميس، 24 سبتمبر 2009

الحركة الإسلامية الإرترية المنهج والقيادة

يا دولة تقع في منطقة القرن الأفريقي كأنها ترقوة تطرز كتف القارة السمراء وهي بالتأكيد رئة الوطن العربي ‏، شرف الله هذا البلد بهجرة الصحابة إليه حيث وصلها الإسلام قبل المدينة المنورة ، ويذكر المؤرخون مثلا أن ‏مسجد الإمام الشافعي في مدينة مصوع يعتبر أحد أقدم المساجد في القارة الأفريقية.‏

وكانت سواحلها تسمي - ببلاد الطراز الإسلامي - وهي واحدة من أجمل البلدان الأفريقية وإن كانت تعاني بل تئن ‏من وطأة الحروب التي اشعلت فيها ولا تكاد تخمد وهي حروب قد فرضت علي شعبها ربما نسبة لموقعها الخطير ‏والمطل علي الجزيرة العربية حيث يمكن المشاهدة من العاصمة اسمرا بالمناظير المكبرة جبال مكة ووديانها ، ‏وقد وصفها النبي عليه الصلاة والسلام بأنها [ارض
صدق] وعرف أهلها بصدق الحديث وصدق المبادئ وكان ‏وعي المسلمين مبكرا جدا بما يحاك لأمتهم الإسلامية ولوطنهم المحسود فأسسوا في أربعينيات القرن الماضي ‏حركة إسلامية تطلبتها ظروف وضرورات المرحلة آنذاك تحت اسم ( الرابطة الإسلامية الأرترية ) وقد خاض ‏قادتها معارك سياسية ناجحة لحفظ وحدة البلد وتحريره من المستعمر ، ولما تم وئد الحركة الوليدة بعدَة طرق ‏ووسائل ومنها تشريد قادتها واغتيال بعضهم سارع المسلمون في ارتريا بتأسيس ( جبهة التحرير الأرترية ) التي ‏خاضت حروب طويلة من أجل تحرير البلد وكان ضمن من شيدوا بناء الثورة الوليدة شباب مسلم طاهر متدين نشأ ‏في أحضان جماعة( الإخوان المسلمين) في مصر والسودان وغيرها ، وعلي رأسهم القائد المجاهد الجسور ‏الشهيد سعيد حسين الذي كان يقاتل في فلسطين ضمن كتائب المتطوعين التي كانت تقاتل اليهود في فلسطين ، ‏وعندما تم الغدر بتلك الكتائب وتم إبعاده إلي بلده التحق بالثورة الإرترية مباشرة وكان من قادتها وشجعانها ، ‏وكذالك إخوانه أمثال محمد إسماعيل عبده رحمه وحامد صالح تركي أمد الله في عمره .‏

الحركة الإسلامية الأرترية المعاصرة مبادئ وقادة :‏

أسست الحركة الإسلامية في بداية سبعينيات القرن الماضي علي يد ثلة من الشباب الغيور علي دينه وعلي ‏رأسهم الأخ الأستاذ الدكتور الشاعر والأديب / صالح علي صالح رحمه الله وإخوانه ، وقد جعلت الحركة منهجها ‏الفكري مستندا إلي الحركة الأم ( جماعة الإخوان المسلمين ) التي نهلوا من منهجها وتربوا علي أيدي ‏مشايخها ولم يفوتهم أن يصبغوها بخصوصيات وطنهم ومتطلباته وأن يثقلوها بهمومه ويشعلوها بآماله فمضوا ‏بها حركة راشدة تبني النفوس وتقوم الأخلاق وتمكن العقيدة السليمة وتسعي لرفعة البلد وتحافظ علي ثوابته،كما ‏احتوت القادة الكبار الذين ساهموا في مسيرة النضال الوطني تأسيسا وبناء وتنظيرا وجهادا وتضحية وقد كان ‏هؤلاء القادة قد تعرضوا للتضيق والإضطهاد والسجن والنفي بل قتل بعضهم وهو يؤدي واجبه الثوري والنضالي ‏والدعوي وذالك علي ايدي [ حزب العمل الأرتري ] الذي كان يتبني أتباعة الفكر الماركسي ، ولم يكن لهم ذنب ‏جنوه الا محاولة إصلاح الفساد الذي نخر نخاع الثورة وتمكن في مفاصلها وذالك بفعل العناصر التي تبنت المنهج ‏الماركسي وقد بذل هؤلاء المصلحون جهود مضنية للحفاظ علي الثورة منهجا وفكرا ونضالا ثوريا ، ولكن التيار ‏الماركسي كان في تلك الفترة ينتشر في أقطار العالم وفي داخل الثورة الأرترية انتشار النار في الهشيم وما كان ‏منهم الا القيام بإقصاء كل من عداهم ، وعندما يأس الشيوخ من إصلاح ( جبهة التحرير ) من الداخل وإرجاعها ‏الي مسارها الذي حادت عنه أسسو( منظمة الرواد المسلمين الأرترية ) كأول تنظيم اسلامي سياسي يظهر في ‏الساحة الأرترية بعد التجربة الأولي مع ( حزب الرابطة الإسلامية في الأربعينات ) وقد وجدوا ثلة من الشباب ‏الغيور علي وطنه قد أسسوا حركة وليدة ( الحركة الإسلامية الأرترية ) وقد انتظم في سلكها في وقت وجيز كما ‏هائلا من الشباب المسلم المثقف الواعي والمثقول بهموم وطنه وشعبه، وقد سر المشايخ بهذا الجهد سرورا ‏عظيما فالتحقو بها هم ومنظمتهم فكان الأباء ولا يزالون نعم الآباء توجيها وتثقيفا وكان الأبناء خير ضمانة ‏لحماية هذا العمل والسهر له بكل حماسة وقوة، وقد تنقلت الحركة الإسلامية عبر محطات ومراحل فمرحلة ‏التأسيس كانت سرية ومرحلة البناء تنقوية ومرحلة الإنفتاح جهادية واليوم هي في قمة نضوجها الفكري ‏والسياسي والشعبي وفي قمة تماسكها التنظيمي، وقد حملت في كل مرحلة اسما يناسب ظروفها ومتطلباتها ، ‏فكانت في مرحلة الكتمان ( حركة ) وفي مرحلة التاسيس ( رواد ) وفي مرحلة الإنفتاج (جهاد) وفي مرحلتها ‏الحالية وهي تتأهب لحكم بلدها ( حزب اسلامي ) شعاره العدالة والتنمية .‏‎ ‎‏ ‏

رحيل القادة والمؤسسين :‏

فقدت الحركة الإسلامية منذوا تأسيسها عدد من كوادرها وقادتها ومشايخها الذين كان لهم الأثر الطيب في مسيرة ‏الحركة وبنائها وتأسيسها نسال الله أن يتقبلهم في الصالحين ، كما عاني وما يزال يعاني كم هائل من مشايخها ‏ودعاتها قساوة السجن والسجانين ومرارة الحرمان من غير ذنب جنوه ، ولكن هي سنة الأنبياء ومسيرة الرسل ‏وطريق العبودية المليئ بالمكاره والمحاط بالأشواك وعلي قدر الصبر والاحتمال تتحقق الآمال ويبزغ فجر الأنوار ‏وتزول الظلمات ويتسع ضيق الطريق وترفع الكربات وتزول الهموم ويعانق الدعاة شمس النصر ويتوجون بأكاليل ‏التضحيات ويريهم الله قدرته في معيته معهم وقذف السكينة والطمانينة في ارواعهم وتتحقق في ارض الواقع ‏مبادئهم إن عاشوا عاشوا سعداء وإن ماتو ماتوا شهداء يموتون ولا تموت مبادؤهم يدفنون ولا تدفن أراؤهم . ‏

‏ وقد فقدت الحركة الإسلامية الأرترية في1/أكتوبر/ 2008م الشيخ الرباني العابد القانت الورع الزاهد الشيخ / ‏محمد اسماعيل عبده ( ابو نوال ) رئيس مجلس الشورى[ للحزب الإسلامي الأرتري للعدالة والتنمية ] وقد بكته ‏العيون وفقدته القلوب فقد كانت رؤيته تسر العيون وتسعد القلوب ، ومن حق المسلمين في العالم أن يعرفوا هذا ‏الرجل القدوة فما أحوج امتنا اليوم أن تتطلع الي سيرة العظماء وتقتبس من نبراسهم وتمضي علي دربهم وقد ‏كان الشيخ / محمد اسماعيل عبده رجلا صالحا ( نحسبه كذالك والله حسيبه ) وقد تتلمذ علي أيدي مشايخ الدعوة ‏الأولي وعلي رأسهم الشيخ المجدد والعالم الفريد مفجر الصحوة الإسلامية المعاصرة ( الشيخ حسن البنا ) فقد ‏كان الشيخ ابونوال يحرص علي حضور درسه المعروف ( بحديث الثلاثاء) ، وقد انتظم في سلك الدعوة الإسلامية ‏هناك في مصر وهو طالب علي أرضها ومعه ثلة من الشباب الأرتري ، ولما تم التضييق علي الدعوة وزج ‏بأتباعها في السجون والمعتقلات اصبح مستحيلا علي الطلاب الوافدين الإتصال بإخوانهم المصريين ، ووقتها ‏كانت تلوح في الأفق تاسيسس الثورة الأرترية فما كان منهم الا ان التحقوا في صفوفها يدعون الي الله ويجاهدون ‏في صفوفها وقد تقلد فيها/ الشيخ ابونوال مناصب عديدة ومن اشهرها مسئول ( محكمة الإستئناف العليا ) التي ‏جعل عملها موافقا للشريعة الإسلامية مما فتح عليه هجوما قاسيا من العناصر العلمانية التي كانت تسعي لإبعاد ‏الدين عن الثورة الأرترية وعن الشعب الأرتري برمته ، ولكنه تحمل كل ذالك بصبر عجيب فهو رجل لا تستفزه ‏الاقاويل ولا تزعجه الأراجيف ولا توقفه الصخور الرواسي فهو رجل صاحب همة فريدة وصدر واسع وصبر ‏جميل لا تكبحه عن مقاصده قيود الأرض ولا صيحات المثبطين ولا نداء العاجزين لا يلتفت لصغائر الأمورويغضب ‏ويحمر وجهه اذا راي انحرافا او اعوجاجا مقصودا ولا يهدا له بال حتي تسير الأمور علي مساراتها وتوافق ‏طبيعتها وفطرتها .‏

الطهارة والنقاء .‏

عرف الشيخ / محمد اسماعيل عبده بالورع والزهد وطهارة اليد، ففي كل المواقع التي تولاها سواء كان في الثوة ‏الأرترية التي تولي فيها اعلي المناصب القيادية او الحركة الإسلامية التي كان قائدها وشيخها و(مراقبها العام) لم ‏يعرف عنه في كل تلك المواقع ان يمد يده الي فلس واحد من اموالها ، وقد شهد له الجميع بأن كل قرش يعطي له ‏لشخصه في أي زيارة يضمه الي صندوق العمل العام ، وكان ورعا لا يسال الناس ، وإذا ضاق عليه الحال ذكر ‏أنه كان يخرج في سبيل الله مابقي له في بيته ، وقد مرت به في حياته هو واسرته جوع وعطش وحرمان ، ولقد ‏رايته كثيرا وهو يتجول بجذائه المقطعة وملابسه النظيفة التي كاد القدم أن يتلفها ، كانت الناس تحبه وتعطيه ‏الأموال من أجل العمل ومن اجله فلا يتناول منها شيئا وهوفي اشد الحاجة اليها ، لله درك يا ابانوال .‏

لذة العبادة ونشوة القلب .‏

كان فضيلة الشيخ / ابو نوال رجلا روحانيا حاضر الدمعة رقيق القلب سريع التأثر بكلام الله عاشقا لقيام الليل متيم ‏بحب كتاب الله كان قليلا ما يهجع من ليله كثير الإستغفاروالإنابة شديد الخوف من ذنوبه ، اذكر مرة صلينا الفجر ‏سويا في مكان ما وبعد الصلاة قلت خاطرة صغيرة لا اذكر موضوعها الآن فرايت الشيخ يداري دمعه ويمسحه ‏بطرف ثوبه ، كان شديد الحياء يكره المعاصي ويحب الطيبات قد الجم لسانه عن ذكر معايب الناس كان يحب ‏الثناء علي الناس بما فيهم من فعل الخير ويشجعهم علي الإلتزام بالدين ، قد اورتثه عبادته لله وانقطاعه له حب ‏الناس وحلاوة اللسان ونور الوجه وضياء القلب، فكان وجهه يتهلل نورا ومجلسه يشع خيرا فكان كلامه قليلا ‏ولكن تأثيره عميقا خطواته مباركة ويومه مثمرلايكل ولا يمل حاضر البديهة قوي الذاكرة روحه شابة وطرفته ‏حاضرة لم يكن يأكل ملئ بطنيه ولا يضحك ملئ شدقيه ولكنه كان يتبسم كأنه فلقة قمر رحمه الله رحمة واسعة . ‏

الشيخ والوقت :

كان الشيخ يعرف قيمة الوقت ويسيطر عليه وينتفع به وكان اشد الناس حرصا علي ضبط وقته فتجده ينجز في ‏يومه ما لاينجزه عشرات الرجال وكان منضبطا في مواعيده ويحتفظ بوثائقه فهو انسان مرتب في كل شيئ في ‏ملبسه في وقته وكلامه واذا وجد فراغا في وقته اغتنمه لقراءة القرآن والذكرأو زيارة الإخوان والأقارب أو ‏ترتيب الأوراق أو الجلوس مع الأبناء وقد رزقه الله ذاكرة كأنه اقتبسها من شيخه حسن البنا رحم الله الجميع فكان ‏تقريبا يحفظ جميع اسماء أبناء الحركة وأسماء قيادات الثورة وقيادات العمل الإسلامي في العالم من قابله منهم ‏ومن لم يقابله ، ولقد تأسفت جدا الا اري كلمة مكتوبة من قادة العمل الإسلامي حول الشيخ وخاصة أمثال الشيخ ‏الغنوشي والهلباوي والقرضاوي وازعم أنه تربطهم به علاقة طيبة وزيارات متبادلة. ‏

مرض الشيخ ورحيله عن دنيانا.‏

الشيخ من من مواليد مدينة ( صنعفي )في ارتريا وفيها بدأ تعليمه وانتقل منها الي مصر طلبا للعلم وعاد الي ‏ارتريا يعمل سرا- في العاصمة{ اسمرا} وهي في ذالك الوقت تجسم تحت الإحتلال الأثيوبي - علي مساعدة ‏الثورة فلما حاول العدو القبض عليه لجأ الي اثيوبيا ومنها الي الميدان قائدا ومقاتلا وداعيا ومربيا وقد قبض ‏عليه بتهمة العمل الإسلامي داخل الثورة الأرترية وعذب وحكم عليه بالإعدام لكن اجل الله اجله فنجي وظل يعمل ‏طوال هذه السنوات بدون كلل ولا ملل حتي ترك الحركة الإسلامية اليوم وقد اشتد عودها وقويت شوكتها وزاد ‏اتباعها وانتشر منهجها وقد ختم الله للشيخ محمد اسماعيل عبده خير ختام فقد يموت الإنسان علي ما عاش عليه ‏وقد عاش للدعوة وبالدعوة وللدعوة، وفي السنوات الأخيرة إختير مسؤولا لمجلس الشوري في [الحزب الإسلامي ‏الأرتري للعدالة والتنمية] وكان قليل الحركة ففرغ وقته لعشقه المتجدد تلاوة كتاب الله وحفظه بالكامل حفظا متقنا ‏ومواصلة قيام الليل مع كثرة العلل وقد صام شهر رمضان وصلي الفجر ثم جمع أهله وأوصاهم بالتمسك بالدين ‏وأخبرهم أنه يحس أنه مفارق الدنيا ثم شرع كعادته يقرأ ورده من أذكار الصباح ثم تمدد وتجهز وانتقل الي رحمة ‏الله .‏

من أراد التعرف علي سيرة الشيخ فاليراجع المدونة التي عملت بإسمه تحت عنوان مدونة / الشيخ الراحل / ‏محمد اسماعيل عبده .‏

رحم الله مشايخنا جميعا .‏

السابق واللاحق:‏

عندما توفي الشيخ محمد اسماعيل عبده إختار الحزب في مكانه أحد اعمدة العمل الإسلامي الأرتري الدكتور / ‏صالح علي صالح الأديب والشاعر والفقيه والمنظر وكان نعم الإختيار الموفق ، و كانت المفاجأ أن لحق الشيخ ‏صالح سريعا بشيخه محمد اسماعيل ( وإنا لله وانا اليه راجعون ) والدكتور صالح هو من مؤسسي الحركة ‏الإسلامية الأرترية. وأنشاء الله سوف نعرِف به اخوانه المسلمين في العالم في المقالة القادمة.‏



الأستاذ محمد جمعة ( أبو الرشيد )

داعية مقيم في اروبا