الاثنين، 14 مارس 2011

الحركة الإسلامية الإرترية ( المنهج والقيادة )

الحركة الإسلامية الإرترية ( المنهج والقيادة )
08/05/1431 الموافق 21/04/2010

ارتريا دولة تقع في منطقة القرن الأفريقي ، كأنها ترقوة تطرز كتف القارة السمراء ، وهي بالتأكيد رئة الوطن العربي ‏، شرف الله هذا البلد بهجرة الصحابة إليه ، حيث وصلها الإسلام قبل المدينة المنورة ، ويذكر المؤرخون مثلا أن ‏مسجد الإمام الشافعي في مدينة مصوع يعتبر أحد أقدم المساجد في القارة الأفريقية.‏
وكانت سواحلها تسمي - ببلاد الطراز الإسلامي - وهي واحدة من أجمل البلدان الأفريقية ، وإن كانت تعاني بل تئن ‏من وطأة الحروب التي اشتعلت فيها ، ولا تكاد تخمد ، وهي حروب قد فرضت علي شعبها ، ربما بسبب موقعها الخطير ‏والمطل علي الجزيرة العربية ، حيث يمكن المشاهدة من العاصمة أسمرا بالمناظير المكبرة جبال مكة ووديانها ، ‏وقد وصفها النبي عليه الصلاة والسلام بأنها [أرض صدق] وعرف أهلها بصدق الحديث وصدق المبادئ ..
وكان ‏وعي المسلمين مبكرا جدا بما يحاك لأمتهم الإسلامية ولوطنهم المحسود ، فأسسوا في أربعينيات القرن الماضي ‏حركة إسلامية تطلبتها ظروف وضرورات المرحلة آنذاك تحت اسم ( الرابطة الإسلامية الأرترية ) وقد خاض ‏قادتها معارك سياسية ناجحة لحفظ وحدة البلد وتحريره من المستعمر ، ولما تم وئد الحركة الوليدة بعدَة طرق ‏ووسائل ، ومنها تشريد قادتها ، واغتيال بعضهم سارع المسلمون في ارتريا بتأسيس ( جبهة التحرير الأرترية ) التي ‏خاضت حروب طويلة من أجل تحرير البلد ، وكان ضمن من شيدوا بناء الثورة الوليدة شباب مسلم طاهر متدين نشأ ‏في أحضان جماعة ( الإخوان المسلمين) في مصر والسودان وغيرها ، وعلي رأسهم القائد المجاهد الجسور ‏الشهيد سعيد حسين الذي كان يقاتل في فلسطين ضمن كتائب المتطوعين التي كانت تقاتل اليهود في فلسطين ، ‏وعندما تم الغدر بتلك الكتائب وتم إبعاده إلي بلده التحق بالثورة الإرترية مباشرة ، وكان من قادتها وشجعانها ، ‏وكذالك إخوانه أمثال محمد إسماعيل عبده رحمه ، وحامد صالح تركي أمد الله في عمره .‏
الحركة الإسلامية الأرترية المعاصرة مبادئ وقادة :‏
أسست الحركة الإسلامية في بداية سبعينيات القرن الماضي علي يد ثلة من الشباب الغيور علي دينه ، وعلي ‏رأسهم الأخ الأستاذ الدكتور الشاعر والأديب / صالح علي صالح رحمه الله وإخوانه ، وقد جعلت الحركة منهجها ‏الفكري مستندا إلي الحركة الأم ( جماعة الإخوان المسلمين ) التي نهلوا من منهجها ، وتربوا علي أيدي ‏مشايخها ، ولم يفوتهم أن يصبغوها بخصوصيات وطنهم ومتطلباته ، وأن يثقلوها بهمومه ، ويشعلوها بآماله ، فمضوا ‏بها حركة راشدة تبني النفوس ، وتقوم الأخلاق ، وتمكن العقيدة السليمة ، وتسعي لرفعة البلد ، وتحافظ علي ثوابته،كما ‏احتوت القادة الكبار الذين ساهموا في مسيرة النضال الوطني تأسيسا وبناء وتنظيرا وجهادا وتضحية ..
وقد كان ‏هؤلاء القادة قد تعرضوا للتضييق والاضطهاد والسجن والنفي ، بل قتل بعضهم ، وهم يؤدون واجبهم الثوري والنضالي ‏والدعوي ، وذالك علي أيدي حزب العمل الأرتري الذي كان يتبنى أتباعه الفكر الماركسي ، ولم يكن لهم ذنب ‏جنوه إلا محاولة إصلاح الفساد الذي نخر نخاع الثورة ، وتمكن في مفاصلها ، وذالك بفعل العناصر التي تبنت المنهج ‏الماركسي ، وقد بذل هؤلاء المصلحون جهود مضنية للحفاظ علي الثورة منهجا وفكرا ونضالا ثوريا ، ولكن التيار ‏الماركسي كان في تلك الفترة ينتشر في أقطار العالم ، وفي داخل الثورة الأرترية انتشار النار في الهشيم ، وما كان ‏منهم إلا القيام بإقصاء كل من عداهم ، وعندما يأس الشيوخ من إصلاح ( جبهة التحرير ) من الداخل وإرجاعها ‏إلى مسارها الذي حادت عنه أسسوا ( منظمة الرواد المسلمين الأرترية ) كأول تنظيم إسلامي سياسي يظهر في ‏الساحة الأرترية بعد التجربة الأولي مع ( حزب الرابطة الإسلامية في الأربعينات ) وقد وجدوا ثلة من الشباب ‏الغيور علي وطنه قد أسسوا حركة وليدة ( الحركة الإسلامية الأرترية ) وقد انتظم في سلكها في وقت وجيز كم ‏هائل من الشباب المسلم المثقف الواعي والمثقول بهموم وطنه وشعبه، وقد سر المشايخ بهذا الجهد سرورا ‏عظيما فالتحقوا بها هم ومنظمتهم ، فكان الآباء ولا يزالون نعم الآباء توجيها وتثقيفا ، وكان الأبناء خير ضمانة ‏لحماية هذا العمل والسهر له بكل حماسة وقوة..
وقد تنقلت الحركة الإسلامية عبر محطات ومراحل ، فمرحلة ‏التأسيس كانت سرية ، ومرحلة البناء تنقوية ، ومرحلة الانفتاح جهادية ، واليوم هي في قمة نضوجها الفكري ‏والسياسي والشعبي ، وفي قمة تماسكها التنظيمي، وقد حملت في كل مرحلة اسما يناسب ظروفها ومتطلباتها ، ‏فكانت في مرحلة الكتمان ( حركة ) وفي مرحلة التأسيس ( رواد ) وفي مرحلة الانفتاح (جهاد) وفي مرحلتها ‏الحالية ، وهي تتأهب لحكم بلدها ( حزب إسلامي ) شعاره العدالة والتنمية .‏‎ ‎‏ ‏
رحيل القادة والمؤسسين :‏
فقدت الحركة الإسلامية منذ تأسيسها عددا من كوادرها وقادتها ومشايخها الذين كان لهم الأثر الطيب في مسيرة ‏الحركة وبنائها وتأسيسها نسال الله أن يتقبلهم في الصالحين ، كما عانى وما يزال يعاني كم هائل من مشايخها ‏ودعاتها قساوة السجن والسجانين ومرارة الحرمان من غير ذنب جنوه ، ولكن هي سنة الأنبياء ، ومسيرة الرسل ، ‏وطريق العبودية المليء بالمكاره ، والمحاط بالأشواك ، وعلي قدر الصبر والاحتمال تتحقق الآمال ، ويبزغ فجر الأنوار ، ‏وتزول الظلمات ، ويتسع ضيق الطريق ، وترفع الكربات ، وتزول الهموم ، ويعانق الدعاة شمس النصر ، ويتوجون بأكاليل ‏التضحيات ، ويريهم الله قدرته في معيته معهم ، وقذف السكينة والطمأنينة في روعهم ، وتتحقق في أرض الواقع ‏مبادئهم ، إن عاشوا عاشوا سعداء ، وإن ماتوا ماتوا شهداء ، يموتون ولا تموت مبادئهم ، يدفنون ولا تدفن آراؤهم . ‏
‏وقد فقدت الحركة الإسلامية الأرترية في1/أكتوبر/ 2008م الشيخ الرباني العابد القانت الورع الزاهد الشيخ / ‏محمد إسماعيل عبده ( أبو نوال ) رئيس مجلس الشورى[ للحزب الإسلامي الأرتري للعدالة والتنمية ] وقد بكته ‏العيون ، وفقدته القلوب ، فقد كانت رؤيته تسر العيون وتسعد القلوب ، ومن حق المسلمين في العالم أن يعرفوا هذا ‏الرجل القدوة ، فما أحوج أمتنا اليوم أن تتطلع إلى سيرة العظماء ، وتقتبس من نبراسهم ، وتمضي علي دربهم ، وقد ‏كان الشيخ / محمد إسماعيل عبده رجلا صالحا ( نحسبه كذالك والله حسيبه ) وقد تتلمذ علي أيدي مشايخ الدعوة ‏الأولي ، وعلي رأسهم الشيخ المجدد والعالم الفريد مفجر الصحوة الإسلامية المعاصرة ) الشيخ حسن البنا ) فقد ‏كان الشيخ أبو نوال يحرص علي حضور درسه المعروف ( بحديث الثلاثاء) وقد انتظم في سلك الدعوة الإسلامية ‏هناك في مصر وهو طالب علي أرضها ومعه ثلة من الشباب الأرتري ..
ولما تم التضييق علي الدعوة وزج ‏بأتباعها في السجون والمعتقلات أصبح مستحيلا علي الطلاب الوافدين الاتصال بإخوانهم المصريين ، ووقتها ‏كانت تلوح في الأفق تأسيس الثورة الارترية ، فما كان منهم إلا أن التحقوا في صفوفها يدعون إلي الله ، ويجاهدون ‏في صفوفها ..
وقد تقلد فيها/ الشيخ أبو نوال مناصب عديدة ومن أشهرها مسئول ( محكمة الاستئناف العليا ) التي ‏جعل عملها موافقا للشريعة الإسلامية ؛ مما فتح عليه هجوما قاسيا من العناصر العلمانية التي كانت تسعي لإبعاد ‏الدين عن الثورة الأرترية وعن الشعب الأرتري برمته ، ولكنه تحمل كل ذالك بصبر عجيب ، فهو رجل لا تستفزه ‏الأقاويل ، ولا تزعجه الأراجيف ، ولا توقفه الصخور الرواسي ، فهو رجل صاحب همة فريدة وصدر واسع ، وصبر ‏جميل لا تكبحه عن مقاصده قيود الأرض ، ولا صيحات المثبطين ، ولا نداء العاجزين ، لا يلتفت لصغائر الأمور ، لا ويغضب ‏ويحمر وجهه إذا رأى انحرافا أو اعوجاجا مقصودا ، ولا يهدأ له بال حتى تسير الأمور علي مساراتها ، وتوافق ‏طبيعتها وفطرتها .‏
الطهارة والنقاء :
عرف الشيخ / محمد إسماعيل عبده بالورع والزهد وطهارة اليد، ففي كل المواقع التي تولاها سواء كان في الثورة ‏الارترية التي تولي فيها أعلي المناصب القيادية أو الحركة الإسلامية التي كان قائدها وشيخها و(مراقبها العام) لم ‏يعرف عنه في كل تلك المواقع أن يمد يده إلى فلس واحد من أموالها ، وقد شهد له الجميع بأن كل قرش يعطى له ‏لشخصه في أي زيارة يضمه إلى صندوق العمل العام ، وكان ورعا لا يسأل الناس ، وإذا ضاق عليه الحال ذكر ‏أنه كان يخرج في سبيل الله ما بقي له في بيته ، وقد مرت به في حياته هو وأسرته جوع وعطش وحرمان ، ولقد ‏رأيته كثيرا وهو يتجول بحذائه المقطعة ، وملابسه النظيفة التي كاد القدم أن يتلفها ، كانت الناس تحبه ، وتعطيه ‏الأموال من أجل العمل ، ومن أجله ، فلا يتناول منها شيئا وهو في أشد الحاجة إليها ، لله درك يا أبا نوال .‏
لذة العبادة ونشوة القلب :
كان فضيلة الشيخ / أبو نوال رجلا روحانيا ، حاضر الدمعة ، رقيق القلب ، سريع التأثر بكلام الله ، عاشقا لقيام الليل ، متيم ‏بحب كتاب الله ، كان قليلا ما يهجع من ليله ، كثير الاستغفار والإنابة ، شديد الخوف من ذنوبه ، أذكر مرة صلينا الفجر ‏سويا في مكان ما ، وبعد الصلاة قلت خاطرة صغيرة لا أذكر موضوعها الآن فرأيت الشيخ يداري دمعه ، ويمسحه ‏بطرف ثوبه ، كان شديد الحياء ، يكره المعاصي ، ويحب الطيبات ، قد ألجم لسانه عن ذكر معايب الناس ، كان يحب ‏الثناء علي الناس بما فيهم من فعل الخير ، ويشجعهم علي الالتزام بالدين ، قد أورثته عبادته لله وانقطاعه له حب ‏الناس وحلاوة اللسان ونور الوجه وضياء القلب، فكان وجهه يتهلل نورا ، ومجلسه يشع خيرا ، فكان كلامه قليلا ‏، ولكن تأثيره عميقا ، خطواته مباركة ، ويومه مثمر لا يكل ولا يمل ، حاضر البديهة ، قوي الذاكرة ، روحه شابة ، وطرفته ‏حاضرة ، لم يكن يأكل ملئ بطنيه ، ولا يضحك ملئ شدقيه ، ولكنه كان يتبسم ، كأنه فلقة قمر ، رحمه الله رحمة واسعة . ‏
الشيخ والوقت :‏
كان الشيخ يعرف قيمة الوقت ، ويسيطر عليه ، وينتفع به ، وكان أشد الناس حرصا على ضبط وقته ، فتجده ينجز في ‏يومه ما لا ينجزه عشرات الرجال ، وكان منضبطا في مواعيده ، ويحتفظ بوثائقه ، فهو إنسان مرتب في كل شيء ، في ‏ملبسه ، في وقته وكلامه ، وإذا وجد فراغا في وقته اغتنمه لقراءة القرآن والذكر أو زيارة الإخوان والأقارب ، أو ‏ترتيب الأوراق ، أو الجلوس مع الأبناء ، وقد رزقه الله ذاكرة كأنه اقتبسها من شيخه حسن البنا ، رحم الله الجميع ، فكان ‏تقريبا يحفظ جميع أسماء أبناء الحركة ، وأسماء قيادات الثورة وقيادات العمل الإسلامي في العالم ، من قابله منهم ‏ومن لم يقابله ، ولقد تأسفت جدا ألا أرى كلمة مكتوبة من قادة العمل الإسلامي حول الشيخ ، وخاصة أمثال الشيخ ‏الغنوشي والهلباوي والقرضاوي ، وأزعم أنه تربطهم به علاقة طيبة وزيارات متبادلة. ‏
مرض الشيخ ورحيله عن دنيانا: ‏
الشيخ من مواليد مدينة ( صنعفي ) في ارتريا ، وفيها بدأ تعليمه ، وانتقل منها إلى مصر طلبا للعلم ، وعاد إلى ‏ارتريا يعمل سرا- في العاصمة{ اسمرا} وهي في ذالك الوقت تجسم تحت الاحتلال الأثيوبي - علي مساعدة ‏الثورة ، فلما حاول العدو القبض عليه لجأ إلى أثيوبيا ، ومنها إلى الميدان قائدا ومقاتلا وداعيا ومربيا ، وقد قبض ‏عليه بتهمة العمل الإسلامي داخل الثورة الارترية ، وعذب وحكم عليه بالإعدام ، لكن أجل الله أجله فنجا ، وظل يعمل ‏طوال هذه السنوات بدون كلل ولا ملل حتى ترك الحركة الإسلامية اليوم وقد اشتد عودها ، وقويت شوكتها ، وزاد ‏أتباعها ، وانتشر منهجها ، وقد ختم الله للشيخ محمد إسماعيل عبده خير ختام ، فقد يموت الإنسان علي ما عاش عليه ‏، وقد عاش للدعوة وبالدعوة وللدعوة ..
وفي السنوات الأخيرة اختير مسئولا لمجلس الشورى في [الحزب الإسلامي ‏الارتري للعدالة والتنمية] وكان قليل الحركة ، ففرغ وقته لعشقه المتجدد ، تلاوة كتاب الله ، وحفظه بالكامل حفظا متقنا ‏، ومواصلة قيام الليل مع كثرة العلل ، وقد صام شهر رمضان ، وصلى الفجر ، ثم جمع أهله وأوصاهم بالتمسك بالدين ، ‏وأخبرهم أنه يحس أنه مفارق الدنيا ، ثم شرع كعادته يقرأ ورده من أذكار الصباح ، ثم تمدد وتجهز وانتقل إلى رحمة ‏الله .‏
من أراد التعرف علي سيرة الشيخ فليراجع المدونة التي عملت باسمه تحت عنوان مدونة / الشيخ الراحل / ‏محمد إسماعيل عبده .‏
رحم الله مشايخنا جميعا السابق واللاحق:‏
عندما توفي الشيخ محمد إسماعيل عبده اختار الحزب في مكانه أحد أعمدة العمل الإسلامي الارتري الدكتور / ‏صالح علي صالح الأديب والشاعر والفقيه والمنظر وكان نعم الاختيار الموفق ، و كانت المفاجأ أن لحق الشيخ ‏صالح سريعا بشيخه محمد إسماعيل ( وإنا لله وإنا إليه راجعون ) والدكتور صالح هو من مؤسسي الحركة ‏الإسلامية الارترية.
وإن شاء الله سوف نعرِف به وبإخوانه المسلمين في العالم في المقالة القادمة
المصدر : موقع السودان الإسلامي

ليست هناك تعليقات: