بسم الله الرحمن الرحيم
أضواء علي حياة الراحل العزيز
الشيخ محمد اسماعيل عبده
بقلم : حامد صالح تركي
بالأمس رحل عنا أخ عزيز وشيخ مربي ومناضل جسور ومجاهد صبور ، في ثاني أيام عيد الفطر المبارك من شوال 1429هـ الموافق الأول من أكتوبر 2008م ، الفقير إلى رحمة مولاهـ ، الشيخ محمد اسماعيل عبده ، بعد أن صلى الصبح وعطر أذكاره ، وأغمض عينيه عن دنيانا الفانية ، وودع محرابه وأهله وإخوانه إلى الدار الباقية ، وجنة الخلد عرضها السموات والأرض ، ونحسبه كذلك ، ولانزكي علي الله أحد . ( وكل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ) . ولا حول ولا قوة إلا بالله .( وإنا لله وإنا إليه راجعون ).
1- جذور الأسرة الكريمة:-
1/1 - ان شيخنا الراحل هو : محمد بن إسماعيل بن عبده بن علي بن عمر بن أحمد بن عبد الواحد بن عبد الصمد بن عبد الله الصنعاني ( المشهور ب عبد الله صنعا) ، مؤسس مدينة صنعفي والمسماة باسمه في إقليم أكلي قوزاي جنوب شرق ارتريا . حيث قدم الجد السابع الشريف عبد الله صنعا إلي ارتريا ، في القرن الرابع عشر الميلادي في العام 1396م ، وأسس مدينة صنعفي ، وقامت زعامتها الإدارية والدينية علي أيدي أحفاده الميامين . وقد تمت مصادرة ممتلكات أسرة عبد الله صنعا في اليمن في مطلع القرن العشرين من قبل الإمام الحاكم لأسرة حميد الدين .
1/2- وإذا كان بيت الأسرة الكريمة ومنبتها العريق هو بيت زعامة ودين وعلم ، فلا غرابة أن نجد أن رجالها الأفاضل كانوا يحرصون علي طلب العلم وتحصيله خارج ارتريا في اليمن والحجاز ، وتحملوا في سبيل ذلك الصعاب والمخاطر . وكان ديدن الأسرة حفظ الدين وتعليمه والإصلاح ببين الناس وحل النزاعات وإنهاء الخصومات ، إلى جانب مواجهة المتفلتين من العتاة ولو كانوا من ذوي القرابة والعشيرة .
وشيخنا الراحل المقيم هو من ذاك المنبت الطيب والتاريخ الشامخ والسلوك المستقيم ، فجده القريب الشيخ عبده قد حرص علي أن يتزوج بذات دين وصلاح بدلا من بنات عمومته الشريفات الجميلات ، فآثر أن يتزوج بفتاة حبشية سوداء عرفت بالدين والصلاح والتقوى واسمها (حمده) ولقبت (عبده) لسواد بشرتها، حيث أنجبت له (إسماعيل ) الذي اغترب إلي اليمن في ريعان شبابه لتحصيل العلوم الشرعية ، وبعد عودته أصبح ناشراً للدين ومصلحاً اجتماعيا للمسلمين في أكلي قوزاي .
ووالدة الشيخ إسماعيل السيدة (حمده) مشهور لها بالتقوى والصلاح والكرامات الباهرة ، وعندما هاجم الغزاة الإثيوبيون إقليم أكلي قوزاي وأخذوها أسيرة مع طفلها ( إسماعيل) إلى داخل عمق الأراضي الإثيوبية سخروها لخدمة إعداد طعام المحاربين الإثيوبيين نهاراً ، واحتجازها ليلاً ، في حظيرة شوكية مع طفلها ، فظلت على ذلك فترة طويلة ، ولا تملك لنفسها أية حيلة غير التضرع واللجؤ إلى الله السميع العليم .
1/3- وذات ليلة انفتح باب الحظيرة وسمعت ( حمده) صوتاً يناديها : حمده ، حمده قومي وانهضي واذهبي خلفي ، فرأت مخلوقاً في صورة أسد وشعرت بفرح وسرور يغمر قلبها فاطمأنت إليه وأخذت طفلها وسارت خلفه طوال الليل باتجاه أكلي قوزاي ، وعند بزوغ الفجر انعطف بها الأسد إلى إحدى الغابات أو الكهوف ثم اختفى عنها ، وفهمت من ذلك حمده أن الشمس ستشرق والأعداء سيتحركون للقبض عليها ، وعليها أن تختفي في الغابة أو الكهف . وعند المساء مع الغيب ظهر لها الأسد من جديد وتحرك سيراً باتجاه العودة إلى أكلي قوزاي ، وتابعته حمده مع طفلها طوال الليل حتى اقتراب الفجر وبزوغ الشمس . وتكرر نفس المشهد ، حيث انعطف بها الأسد إلى الغابة ثم اختفى واعتادت حمده هذا المشهد وألفته . وكانت تقتات مما تجده من ثمار الأشجار ولازمها الشبع طوال رحلتها . وحين أقترب الموكب المبارك ذات صباح من قرية صنعفي وشاهدت حمده معالمها اختفى الأسد عنها ، واندفعت (حمده) إلى قريتها وفرح الناس بمقدمها وعجبوا لحكايتها ، وازدادوا إيماناً بقربها من الله وصلاحها وتقواها .
وهذه القصة ليست خرافية أو متوهمة - كما سيعتقد البعض عند سماعها – وليس هناك ما يمنع من صحة وقوعها ، ونحن المسلمين وكل المؤمنين برسالات السماء نقر بوجود كرامات لعباد الله الصالحين .
وواقع الحال للسيدة (حمده) ، وزواج الشيخ عبده منها من دون بنات عمومته الجميلات ، وبدافع دينها وصلاحها وتقواها ، كل ذلك يشهد على صحة حادثة الأسد مع (حمده) فلله في خلقه شؤون .
وإذا كان عرف الشيخ إسماعيل عبده بالدين والورع والكرم عند مواطني صنعفي وأكلي قوزي ، فإن ما وجدناه من تواضع ودين وكرم وتفانٍ في خدمة المواطنين من قبل الشيخ محمد إسماعيل عبده ، إنما هو من نفحات تلك الأصول الكريمة والجذور الطيبة التي اشرنا إليها رجالاً ونساءً .
2- رحلة العلم والنضال للشيخ محمد اسماعيل عبده :-
2/1- بعد أن تتلمذ اليافع محمد يسن ( ومسمى يسن كان لقبه داخل الأسرة الكريمة ) ، علي يد والده الشيخ إسماعيل عبده في علوم القرآن وفقه العبادات ، درس التعليم الابتدائي والمتوسط في ارتريا . ونظراً لتعلق الأسرة بعلوم الإسلام والعربية فقد وافق الشيخ إسماعيل علي سفر ابنه محمد إسماعيل إلى مصر لتكملة تعليمه . وبالفعل وصل إليها بعد رحلة شاقه ، والتحق برواق الجبرته الذي كان مقراً وسكناً ملحقاً بجامع الأزهر الشريف ، وكان الرواق يستقبل طلبة العلم القادمين من ارتريا وإثيوبيا والصومال ويستضيفهم القائمون عليه حتى إتمام إجراءات الالتحاق بالمعاهد الدينية أو المدارس الأكاديمية في مصر .
وبعد أن أدى الطالب محمد إسماعيل عبده امتحانات الكفاءة والمعادلة في وقت وجيز انتقل إلي المدارس لدراسة العلوم التجارية ، حتى نال شهادة البكالوريا في المحاسبة وعلوم التجارة بتفوق وامتياز .
2/2- وعرف عن الطالب محمد إسماعيل عبده أثناء وجوده في القاهرة ، انه كان طالبا نجيباً في ذاته ، وحريصاً علي مساعدة إخوانه الارتريين ، بتعليمهم العلوم المدرسية ومراجعتها وتلخيصها لهم بخطه الجميل . كما عرف عنه مشاركته في تأسيس طلبة ارتريا بالقاهرة والمشاركة في قيادة اتحاد الطلاب الارتريين وإدارته لأنشطته المختلفة ، إلي جانب إسهامه في حل الخصومات والتنا حرات بين إخوانه الارتريين .. حتى كاد ذات مرة أن يفقد حياته علي يد أحد سفهائهم ومتهوريهم ، حيث بادر الطالب محمد إسماعيل ذات مرة متدخلاً لفض اشتباك وعراك وقع بين متخاصمين ، فاشطاط أحدهما - وكان أشد سفهاً واعتداءً - غضباً وغيظاً علي محمد اسماعيل ، فاستل سكيناً وطعن بها ظهره حتى نفذت إلى جوفه ، فسقط متدرجاً في دمائه ومتدثراً في غيبوبة طويلة ، وحمل إلى المستشفى ليمكث فيه فترة طويلة للعلاج ، حتى كتب الله له الشفاء والحياة والنشاط من جديد.
وظل أثر الجرح الغائر علامة بارزة علي ظهره حتى انتقل إلى آخرته ، فرحم الله الشيخ كم كان عرضة للابتلاءات في حياته ! ولكن كانت المفاجئة أمام الجميع ، في أروقة تحقيقات البوليس ومحاكم الجريمة ، حين تقدم الطالب محمد إسماعيل عبده بالعفو الشامل عن أخيه المجرم ومتنازلاً عن كافة حقوقه إزاءه ، فيا له من خلق رفيع ونفس شامخة !
2/3 – وحين وصلت رسالة من الشيخ اسماعيل عبده يستدعي فيها ابنه محمد اسماعيل لمشاهدته قبل رحيله عن الدنيا ، لمرضه وشعوره بدنو أجله ، بادر الطالب محمد اسماعيل بتجهيز نفسه للعودة إلى ارتريا ، قاطعاً آماله وتطلعاته في مواصلة تعليمه لنيل الشهادة العليا من الجامعات المصرية وهكذا عاد الطالب محمد اسماعيل عبده لبدء حياة جديدة ، بكل ما تكتنزه من آمال وآلام ومنعطفات لا يدرك مداها إلا التشبث بالايمان العميق بالله والرضى بأقداره الحكيمة .
وبعد عودة الطالب محمد اسماعيل عبده الي الوطن العزيز وإحتفائه بمشاهدة والده المريض وإعتنائه به وببقية أفراد اسرته ، كان عليه أن يحقق رغبة والده ورغبة صديق والده الحميم الزعيم علي بك أحد الرموز البارزة لعشائر الساهو .. وكانت رغبة الصديقين تتلخص في ضرورة اقتران الشاب محمد اسماعيل بالفتاة النجيبة فاطمة محمد سعيد حفيدة علي بك .
وبالفعل تحققت الامنية للصديقين وتمت الخطوبة ، ولم يلبث الشيخ اسماعيل بعد ذلك طويلاً ، حيث انتقل ذات صباح الي ربه ، بعد أن صلى الصبح وردد أذكاره .. وترك وراءه حياة حافلة بذكريات عطرة عن تعليمه وارشاده لأهله وعموم مواطنى المنطقة .. وكذلك مات الشيخ ابونوال ذات صباح بعد أن صلى الصبح وأدى الأذكار ، فهما ذرية بعضها من بعض في التقوى والصلاح بإذن الله.
2/4 – بعد وفاة والده ، تفرغ الاستاذ محمد اسماعيل عبده لمواجهة مسؤولياته الاجتماعية والمهنية ، فقام بإتمام مستلزمات زواجه وعقد قرانه والعمل في التدريس لكسب عيشه ، في مدرسة الجالية العربية باسمرا ، وقد تحقق له كل ذلك ، ولكنه لم يكن يدري ما كان ينتظره من إلتزامات ومتاعب مؤلمة وكوابيس مزعجة ومنعطفات محيرة ، كانت في انتظاره في رحم الغيب لا يعلمها إلا الله الذي تفرد بعلم الغيب .
وقد سبق للفتى محمد اسماعيل عبده ، أن عاش وشاهد أحداث فترة تقرير المصير في ارتريا في نهاية الأربعينيات ومطلع الخمسينيات ، وانخرط في نشاطاتها الشبابية ، فكان عضواً في شباب حزب الرابطة الاسلامية ، الذين كانوا يجوبون شوارع المدينة بأزياهم المميزة ويهتفون بأناشيدهم الحماسية المدوية ، لبث الحماس والتحريض بين صفوف رجالات الرابطة الاسلامية وأنصارها .
وها هو الاستاذ محمد اسماعيل اذ يستعيد ذكريات الماضي ، يشاهد الأن بأم عينيه الطغيان الاثيوبي في إزالة النظام الفيدرالي وطمس كل مظاهر الهوية الارترية ورموزها الإستقلالية من عَلَم وأحزاب وصحافة ونقابات ، تتهاوى في السقوط لترتفع مكانها الرومز والشارات البديلة للإستعمار الاثيوبي ، لتعيش ارتريا في حزن علي ما حل بها ؟!
وهذا الواقع المأساوي الجديد للشعب الارتري لم يستسغه رجال وشباب ارتريا الأحرار ، وبخاصة المتعلمين منهم ، فانخرط الإستاذ محمد اسماعيل عبده مع اخوانه وزملائه الأحرار في توعية الجماهير وتكثيف الإتصالات بين المثقفين للقيام بالتحريض والتعبئة ضد الاستعمار الاثيوبي ، والتفاكر فيما ينبغي عمله . وبوجه خاص كان زعماء وأنصار الرابطة الاسلامية والكتلة الإستقلالية أكثر حيوية في التحريض والتعبئة العامة ضد التدخلات الإثيوبية في الشؤون الارترية .. وكان من زملائه البارزين معه في هذا التحريض والتخطيط الوطني المناضل الإستاذ سيد أحمد محمد هاشم العائد من القاهرة بعد تخرجه وتعيينه كموظف رفيع في وزارة المالية الارترية ( الاثيوبية) .
وكان همّ المناضلين محمد اسماعيل وسيد أحمد وآخرين معهما ، العمل سراً لإخراج الشخصيات السياسية البارزة من أمثال السيد/ ادريس محمد آدم ، والسيد / ابراهيم سلطان ، للسفر إلى مصر للعمل ضد التدخلات الاثيوبية.
وقد سبقهما من قبل في الوصول إلى القاهرة السيد / ولد آب ولدي ماريام عقب محاولات إغتياله من قبل الأجهزة الاثيوبية السرية ، وكذلك سبق أن ذهب السيد محمد عمر قاضي الي الجامعة العربية والأمم المتحده لشرح مظالم التدخلات الاثيوبية .. وقد باءت كل تلك الجهود السابقة بالفشل ، وكانت هذه محاولة أخيرة لتحريك الزعماء السياسين الي الخارج ، وبالفعل اثمرت هذه الجهود الأخيرة في إخراج السيدين ادريس محمد ادم ، وابراهيم سلطان علي ، وأخرين من أعوانهما .
وقد تمخض عن الحراك السياسي الذي كان يقوم به المناضلان محمد اسماعيل عبده وسيد أحمد محمد هاشم وأخرين غيرهما ، ومهد عن بروز انشطة حركة تحرير الارترية التي تأسست في عام 1958م في السودان برئاسة المناضل محمد سعيد ناود وأخرين معه ، وأصبحت لها خلايا سباعية ( محبر شعتي) داخل المدن الارترية ، كما تمخض ذلك النشاط للحراك السياسي العام في الداخل والخارج عن ميلاد جبهة التحرير الاترية في عام 1960م في القاهرة برئاسة المناضل ادريس محمد ادم .
وبالرغم من التباينات الفكرية والسياسية التي كانت بين الحركتين ، حركة التحرير الارترية بتوجهها اليساري وتبنيها للعمل السياسي ، وجبهة التحرير الارترية بتوجهها الوطني العام وتبنيها لنظرية الكفاح المسلح ، كان بين اتباعهما في داخل ارتريا تعاون وتنسيق في المراحل الأولى لمقاومة التدخلات الاثيوبية .
وكانت النشاطات التمهيدية الأولى لأنصار حركة التحرير الارترية وأنصار جبهة التحرير الارترية تتم في منزل الشيخ ابي نوال حيث خصصت غرفة لكل جماعة لمزاولة لقاءاتها فيها .. وكانت لقاءات جبهة التحرير الارترية تتم عن طريق الشيخ ابي نوال ، ولقاءات ( محبر شعتي) لحركة التحرير تتم عن طريق الشيخ علي يسن . وفيما بعد خصصت غرفة أخرى لإخفاء رئيس الفدائيين المناضل والمجاهد سعيد حسين .
وكل هؤلاء كانت تتولى إطعامهم السيدة الفضلى والعروس المخلصة فاطمة محمد سعيد علي بك حرم الاستاذ / محمد اسماعيل عبده . وكانت تبعد عنهم (الشّغالة) وتراقب العيون الاثيوبية وتتولى مع زوجها خدمة الضيوف ، فكانت بحق المناضلة الأولى والمجاهدة المتفانية في خدمة الوطن والدين .
ولم يمض وقت طويل حتى انكشف أمر هذه القاءات والاتصالات للحركتين ، حيث كان الشيخ علي يسن علي قدر كبير من الحماسة في تبشير الناس بإحداث التغيير المتوقع ، فتسربت المعلومات الى الأجهزة السرية المسخرة للتدخلات الاثيوبية .. وهكذا طالت الاعتقالات والتحقيقات والسجون عدداً كبيراً من العاملين ضد اثيوبيا ، وعلى رأسهم المناضل الشهيد سعيد حسين عليه رحمة الله .
وكذلك طالت التحقيقات والملاحقات المناضل محمد اسماعيل عبده ، الى أن تمكن الإفلات من قبضة العدو وغادر ارتريا الى اثيوبيا في طريقه الي السودان عن طريق غوندر ، ووصل الى كسلا في عام 1964م لينضم الى زملائه القياديين في جبهة التحرير الارترية ، وتم إختياره سكرتراً للقيادة الثورية التي كانت تشرف علي وحدات جيش التحرير الإرتري العامل في المناطق الارترية .
3- الشيخ محمد اسماعيل عبده قيادي ورجل مواقف وإداري ناجح :-
3/1- عرفت الثورة الارترية – ومن قبل الاتحاد الطلابي والنشاط الشبابي – المناضل محمد اسماعيل شخصاً إستثنائياً يتمتع بمزايا قيادية عديدة لتنفيذ كل المسئوليات التي يكلف بها ويؤدي متطلباتها علي أكمل وجه دون تردد .. وكانت كثير من المهمات الصعبة تسند اليه عندما يقل الرجال المناسبون لتولي المسئووليات .
وأذكر عندما كنا في مدينة مندفرا بسراي ، نفصل في قضايا الإستئنافات للمنطقة ، ودفعت الجبهة الشعبية بوحدات عسكرية الى إقليم أكلي قوزاي لإخراج جبهة التحرير منه ، وكسب المواطنين ، استنجدت قيادة الجبهة بالمناضل محمد اسماعيل رئيس محكمة الإستئناف ، لطرد وحدات الجبهة الشعبية من المنطقة وتثبيت المواطنين علي استمرار ولائهم للجبهة .. وهكذا تم تحريك قوة عسكرية وعلي رأسها الشيخ ابي نوال للتوجه الى مناطق الإحتكاك بين التنظيمين المتنافسين . واستطاع الشيخ أبونوال من إعادة الإقليم الي سيطرة الجبهة بعد طرد وحدات الجبهة الشعبية عنه ، وجمع الأعيان والوجهاء للأقليم لتوعيتهم وضمان استمرار ولائهم للجبهة . وكان العنصر المهم لنجاح المهمة ليس الإقتتال بين الطرفين ، لانه كان للجبهة من الناحية العسكرية مقاتلين أشداء وكوادر عسكرية ميدانية ممتازة ، وانما كانت صعوبة المهمة في تفادي الإقتتال مع اخراج وحدات الشعبية من المنطقة وضمان استمرار ولاء المواطنين نحو الجبهة .
وبالفعل نجح الشيخ أبونوال في إنجاز المهمة علي أكمل وجه ، وكانت كثير من اللجان الخاصة التي تكونها قيادة الجبهة لمواجهة المشكلات المعقدة ، كان الشيخ أبونوال عضوها البارز ، بكل ما يحمله من جدية وعدل وفهم عميق لواقع المعضلات الارترية .
3/2 – ان الشعب الارتري معروف بتعدد قبائله وعشائره وثقافاته وأديانه ولغاته وتباين أوضاعه الإجتماعية والمعيشية ، وكان من الطبيعي أن تعاني الثورة الإرترية من إفرازات تلك التباينات ، وذلك بالرغم من الجهود التي بذلتها الثورة لإيجاد نسيجاً موحداً ومتناغماً مع الثورة وتوجهاتها .
ووسط هذه المناخات المتصارعة والمتناحرة ، كان المناضل الشيخ محمد اسماعيل يتمتع بالتواضع والنزاهة والبعد عن الإستقطابات العشائرية والشللية ، وكان منهجه في التعامل مع الجمهور العام واللأشخاص يقوم علي التقيّد بمراعاة العدل والإنصاف بقدر المستطاع وإصلاح ذات البين والتوفيق وتهدئة الخواطر والدعوة إلى التسامح وتجاوز الخلافات الثانوية والتفرغ لمعالجة القضايا الجوهرية والمشتركة بين الأطراف المعنية .
لهذا كان يتمتع الشيخ أبو نوال بإحترام الجميع وتقديرهم واطمئنانهم الى مقترحاته وحلوله لمواجهة المشكلات المطروحة أو المتجددة بين حين وآخر .
3/3- وكذلك عرف الشيخ أبو نوال لدئ الثورة الارترية عموماً بإعتباره اداري منضبط ومنظم في التخطيط والبرمجة لأعمال جلسات الإجتماعات واللقاءات والمؤتمرات المختلفة ، وما أكثر الاجتماعات واللجان لدى الثورة والشعب الارتري . وإختياره سكرتيراً مفضلاً لكل المستويات القيادية التى عمل فيها لم يكن ذلك من فراغ ، وانما كان ذلك لما يتمتع به الشيخ أبو نوال من استيعاب كامل لطبيعة المشكلات المطروحة وسير مناقشاتها وقدرته علي تلخيص وقائعها وتسجيل محاضرها بطريقة وافية دون تطويل ممل أو تقصير مخل .. ومع الأسف الشديد قد ضاعت كل تلك الجهود الناصعة (لتنظيم وتسجيل المحاضر) في خضم الصراعات والإنشقاقات الارترية غير المبررة .
3/4- وعموماً يعرف كل المناضلين الشرفاء إمكانات ومؤهلات المناضل الشيخ محمد اسماعيل في الساحة الارترية ، والكل استفاد منه ، ولم يبخل بمعارفه عن المحيطين به ولو لفترة محدودة .. وحتى المناضل أسياس أفورقى ، الذي أورد الساحة الإرترية من قبلُ وبعد الإستقلال الموارد والتهلكة علي كل المستويات ، بأعتباره أول رئيس لارتريا بعد الإستقلال ، قد استفاد هو الآخر أثناء فترة النضال من الشيخ محمد اسماعيل عبده في مجال تأهيله في اللغة العربية ، فلا ينكر فضل المناضل الشيخ محمد اسماعيل إلا كل جاحد أو مكابر ، (وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب سينقلبون ) .
4- الشيخ أبو نوال رائد لتنظيم القضاء وإرساء قواعد العدالة :-
4/1- عندما اختير المناضل الشيخ محمد اسماعيل لتولي رئاسة القضاء التابع لجبهة التحرير الارترية ، تمكن من تنظيم الأجهزة القضائية بشكل يلائم مراعاة الأعراف المحلية والشريعة الاسلامية والقوانين الحديثة ، كل ما أمكن ذلك ، حيث وضعت اللوائح المنظمة لتأسيس المحاكم والسلطات الممنوحه لها ، وكيفية ممارسة عملها ، الي غير ذلك من الاجراءات اللازمة لنجاح أدائها .
وبناء علي التخطيط المنظم انشئت المحاكم الأهلية ، وكانت تدار من قبل اللجان الشعبية ويتولى النظر في القضايا المعروضة عليها الوجهاء والأعيان وأصحاب الخبرة بالأعراف المحلية . وهي تبتّ في القضايا والمشكلات والمنازعات ذات الطابع المحلي والمرتبطة بالمواطنين ، وذلك مع إمكانية إستئنافها في حالات خاصة .وهناك محاكم المناطق ، وهي علي مستوي الاقليم ولها اختصاصات محددة الي جانب النظر في القضايا المستأنفة من المحاكم الأهلية أو الشعبية.
وهناك المحاكم الشرعية للنظر في قضايا المسلمين ذات الطابع الاجتماعي من قضايا الزواج والمواريث وغيرها ، وهي قابلة للإستئناف عند الضرورة . وكانت مسئوولية القضاء الشرعي تابعة للمناضل الشيخ ابراهيم عمار ، وكان من أفضل كوادر الجبهة في النشاط والجدية وقول الحق ومحاربة الإنحرافات الفكرية والسياسية . واستطاع أن يبطل نظرية تزويج المسلمات بالمسيحين وأبطل زيجاتها الواقعة ، وكان يقف وراء هذا التوجه الانحرافي الجناح المتطرف والدموى من حزب العمل الارتري . كما تصدى الشيخ ابراهيم عمار لمشروع إباحة أكل لحوم القردة ، وكان يتمتع بالشجاعة النادرة في مواجهة القيادات المنحرفة ، وكان الشخص الوحيد الذي استطاع أن يتحدى قيادة الجبهة ويقوم بزيارتنا في السجن للتعير عن التضامن معنا .. آلا رحم الله الشيخ ابراهيم عمار وأسكنه فسيح جناته .
وكانت محكمة الاستئناف العليا علي رأس الهرم القضائي لجبهة التحرير الأرترية ، وبرئاسة الشيخ محمد اسماعيل عبده ، وعضوية آخرين من ذوي الاحتصاص والقانون والخبرة بالأعراف . أما الجرائم والمخالفات العسكرية والأمنية فكانت خارج اختصاص القضاء المدني ، وكانت الجرائم والمخالفات العسكرية والأمنية يفصل فيها عن طريق لجان خاصة مؤقته ، وكان يشوب أحكامها عيوب كثيرة ، ونجم علي ذلك التضحية بارواح كثير من الابرياء ، وذلك بالنظر لأتخاذ الاحكام فيها بالسرعة والفورية والمزاجية وقلة الكفاءات المؤهلة في لجانها .
4/2- وبوجه عام استطاعت محكمة الإستئنافات العليا أن تبتّ في معظم القضايا العالقة والمتراكمة لسنوات طويلة . بل واستطاعات المحكمة أن تفصل في قضايا الاراضي الزراعية المتنازع عليها منذ العهد الايطالي ، بعد أن تم العثور علي عقود رسمية تتعلق بها ، وكانت مخبأة في بعض كنائس الهضبة الارترية .
ومن الملاحظ أن مواطنينا المسيحين كانوا – أحيانا - يتحرجون او يتحفظون أو يمتنعون من التقاضي أمام أعضاء المحكمة العليا مالم يكن من بينهم الشيخ محمد اسماعيل رئيس المحكمة أو العضو حامد صالح تركي . وعندما سألناهم عن سبب إمتناعهم للتقاضي أمام زملائنا المسيحين عند غيابنا ، قالوا أننا لا نضمن نزاهة أو إنحياز ابنائنا لصالح أحد الطرفين المتخاصمين !
وكنا نعاني أيضا في المحكمة العليا من تدخلات بعض القياديين في الجبهة لحسم قضايا المزارعين المتعلقة بالبساتين لصالح اتحاد العمال والفلاحين ( لتأميمها لصالح الكادحين ) حسب الهوس الاشتراكي الذي كان سائداً في الساحة الارترية .. والحمد لله تمكنا من التصدي لكل تلك الممارسات المنافية لقواعد العدالة ، وذلك مما اغضب قيادة الجبهة علي المحكمة العليا ، واعتبرت مواقفها هذه سلوكاً رجعياً ويمينياً لايستقيم مع توجهات الثورة حسب زعمهم .
وكانت النتيجة سعي القيادة لإبعاد واعتقال الشيخ محمد اسماعيل وصحبه ، بحجة وضع حد للتوجهات الرجعية واليمينية لرئاسة المحكمة وإعاقتها لإنطلاقة الاشتراكية الظافرة في ارتريا.
5- الدور الرائد للشيخ محمد اسماعيل عبده في مقارعة
الإنحرافات الفكرية والسياسةفي الساحة الارترية :-
5/1- من المعلوم أن جبهة التحرير الارترية كانت أفضل التنظيمات الارترية في علاقاتها وروابطها مع مكونات الشعب الإرتري من مسلمين ومسحيين ،لأنها كانت تراعي احترام أديان وثقافات وأعراف الشعب الارتري . وما لحق فيما بعد من الجبهة من استفزازت للشعب ، وانحرفات فكرية وسياسية ، وتفلتات خلقية وسلوكية ، اومظالم شخصية بحق المواطنين ،كان ذلك أهون بكثير مما كان عليه حال المواطنين في مناطق سيطرة الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا .
ومن المعلوم أن حزب العمل الارتري الذي كان يسيطر علي قيادة جبهة التحرير الارتترية ومؤسساتها التنظيمية ،كان في داخله تياران ؛
أولهما كان تياراً إندفاعيا ومتهوراً في تبنيه للأفكار اليساريه ، وكان يسعى لتطبيق المبادئ الشيوعية - تحت المسميات المختلفة - علي الشعب الارتري . لهذا كان يسعى هذا الجناح لتصفية معارضيه بمختلف الوسائل .
أما التيار الثاني من حزب العمل كان أكثر تعقلاً ، فمع إيمانه بالمبادئ اليسارية والاشتراكية ، إلا انه كان يميل الي الوسائل السلمية وإلى الإقناع والحوار ، كلما أمكنه ذلك ، وكانت وسائل الحسم والقمع آخر اسلحته .
5/2- ولمواجهة التطورات الإنحرافية في داخل الجبهة عملنا علي تجميع التيارات الأخرى المناهضة للتوجهات اليسارية الإقصائية .. وهكذا تم ميلاد ( التجمع الوطني الديموقراطي الارتري ) ومكوناته كانت من التيار الاسلامي برئاسة الشيخ محمد اسماعيل عبده ، والتيار المستقل برئاسة المناضل ابراهيم ادريس محمد ادم ، والتيار العروبي البعثي برئاسة المناضل جعفر علي أسد . ومن الطبيعي أن تستنفر قياداة الجبهة ومن ورائها حزب العمل اليساري ازاء هذا التوجه المسمى عندهم بالتوجه الرجعي اليمينى .
وكان تيار ( التجمع الوطني الديمقراطي) معروفة عناصره القيادية لدي حزب العمل وقيادة جبهة التحرير ، فمن الطبيعي أن يبادر حزب العمل بالإعتقالات والملاحقات والسجون والتصفيات الجسدية لعناصره .
وبالمقابل فان قيادة التجمع بذلت جهدها في تكثيف نشاطاتها المناهضة لحزب العمل ، ففي داخل قيادات جبهة التحرير قام الأخوان محمد اسماعيل عبده وابراهيم ادريس محمد ادم بالدور المطلوب لإعاقة اندفاعات قيادة حزب العمل . وكذلك قام بقية الأخوة في قيادة التجمع والعاملين في مواقع مختلفة بالدور المطلوب للتصدي لإنحرافات حزب العمل .
وقد قام التجمع الوطني الديمقراطي برئاسة الأخ أبراهيم ادريس محمد آدم ، بوضع تقرير شامل عن الساحة الارترية رصدت فيه سلوكيات حزب العمل وخطورة إفكاره الإنحرافية والاقصائية . وكان التقريربمثابة موجه ودليل عمل لقيادة التجمع ، وكتب باليد لضمان سريته ، وكان بخط الأخ ابراهيم ادريس محمد آدم . وكذلك أمكن الإتصال عن طريق الشيخ محمد اسماعيل عبده بالكوادر العسكرية الموثوق من قناعاتها وسلوكياتها ، وكان يتم اللقاء معها وتوجيهها من مقر محكمة الإستئناف العليا .
5/3- كانت قيادة التجمع وأعضاؤها حريصين علي التصدي لكل الممارسات الإنحرافية التي تورط فيها حزب العمل الإرتري ، وكانت تسعى لتعرية اليسار المتطرف أمام جماهير وقواعد جبهة التحرير الإرترية ، حتى في المسائل ذات الدلالة المحدودة . وحين تعرض المؤتمرون في العام 1975م لغارة جوية اثيوبية ، واستشهد فيها المناضل علي حنطي رئيس اتحاد عمال ارتريا، كانت ترى قيادة حزب العمل أن يدفن فقط مع توديعه بزخات إطلاق الرصاص . ولكن مجموعتنا التي شاركت في الدفن (ادريس محمد ادم ، ومحمد اسماعيل عبده ، وحامد صالح تركي ، وآخرون ) تصدت لقيادة حزب العمل ، ودعت لأداء صلاة الجنازة عليه ، بإعتباره من أبناء المسلمين . وبعد نقاش محتدم بين الطرفين استمر لساعة تم مواراة الشهيد بعد الصلاة عليه بإمامة الشيخ محمد اسماعيل .. وكان هذا الموقف منا لتأكيد شعائر المسلمين ، وذلك بغض النظر عن حال الميت ، لأن كل امرئ يبعث علي ما مات عليه من المعتقدات الإيمانية .
وكمثال آخر علي جهودنا لإفشال مخططات حزب العمل ، اتفقت كتلتنا ( ابراهيم ادريس ، ومحمد اسماعيل ، وحامد تركي ، ومحمد علي لباب ، وآخرون ) علي إقناع المناضل ادريس محمد آدم لعدم ترشيح نفسه لرئاسة جبهة التحرير الإرترية في مؤتمرها الثاني . وذلك حين علمنا ان حزب العمل يسعى لترشيح أدريس محمد آدم بقصد إسقاطه في المؤتمر ، وجعله أضحوكة أمام الجماهير الإرترية ، وكان في استطاعتهم أن يفعلوا ذلك ، بسبب سيطرتهم علي كوادر الجبهة والمؤتمرين ، فقررنا من جانبنا تفويت الفرصة عليهم ، واسقط حزب العمل في يده .
ثم استعر الخلاف فيما بينهم وكان ضحيته المناضل ( حروى تدلا بايرو) وأنصاره ، حين أقصى تماماً ، وأعقب ذلك بوادر الشر والإنشقاقات التي هبّت من كل النوافذ علي جبهة التحرير الأرترية ، فكان ما كان من عجائب الغيب !
5/4- ومن المهم أن نذكرهنا أن الأخ المناضل والمجاهد الشهيد سعيد حسين جلسنا معه عقب خروجه من المعتقلات الاثيوبية بعد سجن طويل ، وشرحنا له أنا والأخ محمد اسماعيل كل التطورات التي حدثت في جبهة التحرير أثناء غيابه في السجن الأثيوبي ، واطلعناه علي نشاطات ( التجمع الوطني الأرتري ) وان التغيير يجب أن يكون من داخل الجبهة وليس من بالإنفصال عنها .
ولكن الأخ سعيد حسين لم يقتنع بوجهة نظرنا ، رغم ما بذله معه الشيخ أبونوال من شرح قائلاً له : ان المسلمين الذين تعرفهم في المناطق الشرقية قد تبدلت عاداتهم وعواطفهم وقيمهم بسبب الممارسات الإنحرافية الفكرية والسلوكية لحزب العمل في الوسط المسلم ، فلا نضمن لك استجابتهم للوقوف إلى جانبك . وحين لم يستجيب الأخ سعيد حسين لهذه التوضيحات ، لم يكن أمامنا ما نساعده به إلا تزويده بالبيان التحليلي للتجمع الوطني بشأن انحرافات حزب العمل . وعندما قامت قيادة حزب العمل بالغدر بمجموعة سعيد حسين وقتلتهم جميعاً ، عثرت علي البيان التحليلي ضمن مرفقاتهم وامتعتهم الخاصة . فكان الدليل الأول الذي استخدم عند محاكماتنا ، وكان الشهيد سعيد حسين واخوانه أسوداً لا تجرؤ عصابة حزب العمل من الاقتراب منهم ، لولا الخداع والغدر وتخديرهم وتسميم طعامهم قبل قتلهم بطريقة خسيسة . الآ رحمهم الله واسكنهم فسيح جناته مع الأبرار .
5/5- عندما تفجر الصراع المكشوف بين جبهة التحرير بقيادة حزب العمل ، وبين مجموعات حروي تدلابايرو ، وكان يعرف بتيار ( الفالول) ذي التوجه اليساري والقواعد المسيحية ، وأخذ الصراع شكل المواجهة المسلحة ، وقتل العشرات من جناح الفالول ، وانسحب المئات منهم إلى صفوف الجبهة الشعبية .
فسر هذا التصرف من جبهة التحرير الأرترية علي أنه استهداف للمسيحين ، عندئذ رفع حزب العمل شعار : ( أهمية تصفية التيار اليمني (وبعنون تيار التجمع ) كما تمت تصفية وسحق تيار الفالول المنفلت ) .
وكان هذا التوجه الجديد للمقارنة بين التيارين يهدف إلى إبعاد تهمة التعصب عن الجبهة ضد المسيحين .. ولذلك بادرت الجبهة بقيادة حزب العمل علي الإسراع بإعتقال قيادة التجمع الوطني الديمقراطي وملاحقة أنصاره .
ومن المفارقات المضحكة أن التهمة الرئيسة ضد قيادة التجمع كانت إستلام سلاح وأموال من المناضل الشهيد/ عثمان صالح سبي ، لإحداث إنقلاب ضد قيادة الجبهة الشرعية . وكانت هناك تهم أخرى تتعلق بكل جناح علي حدة .
فهناك تهم تتعلق بجعفر علي أسد لإنتمائه البعثي وفرض العروبة علي أرتريا . وهناك تهم تتعلق بإبراهيم ادريس محمد آدم لعلاقته بوالده الذي كان يعادي الجبهة . وهناك تهم تتعلق ب محمد اسماعيل وحامد تركي لتكوينهما حزب اسلامي معادياً للتقدمية .. ودليلهم علي ذلك شاهدوا ذات مرة الشيخ محمد اسماعيل قد صلى بعدد من الأخوة صلاة جماعة في (فورتو) فاعتقد رئيس جهاز الأمن ان هؤلاء حزبيون .. ودليل آخر إدخال مصاحف إلى ارتريا عن طريق الشيخ ادريس سعد الله .. ودليل ثالث المشاركة بخطاب اسلامي في المؤتمر الإسلامي المنعقد في بغداد سنة 1966م ، الى غير ذلك من التخبطات والهلوسات .
وكما اسلفنا سابقاً ان وجود جناحين متصارعين داخل حزب العمل القائد لجبهة التحرير الإرترية ، كان سبباً في تجنيب كثير من المتهمين سفك دمائهم وقتلهم بالجملة ، كما كان يحدث من قبل حزب الشعب الارتري (السري) الذي كان يقود الجبهة الشعبية لتحرير ارتريا .
6 - الشيخ محمد اسماعيل عبده رجل المبادئ والدعوات المستجابة :-
6/1- ان بيت العلم والدين الذي ولد ونشأ فيه الشيخ محمد اسماعيل ، كان له الأثر المباشر في توجهاته الإسلامية .. وما أضافه من تعلم وإطلاع واستزاده من تواصل ثقافي وتربوي مع قادة العمل الإسلامي في مصر ، كان ذلك تعميقاً لمبادئ الإسلام في تكوينه الروحي وسلوكه الخلقي ، مما اكسبه صعوداً نحو الإستقامة الذاتية من جهة ، والعمل للإنتصار والتمكين لمبادئ الإسلام في واقع حياة الناس والمجتمع من جهة أخرى .
ومن هنا توثقت صلاته مع كافة العاملين في حقل الدعوة الاسلامية ، من دعاة وجمعيات وأحزاب ، وتحقيقاً لهذا التواصل زار الشيخ محمد اسماعيل عدداً من بلدان أوروبا وآسيا والإقطار العربية في مناسبات اسلامية كثيرة .
وحين أكرم الله الشعب الارتري بظهور العمل الاسلامي المنظم في ارتريا وامتداتها المهاجرة ، وبكل مستوياته ، كان للشيخ محمد اسماعيل عبده في ذلك قصب السبق في تأسيسه ورعايته والمجاهدة فيه بلا كلل ولا ملل حتى أتاه اليقين من ربه ، فنسأل الله أن يجازيه عنا وعن الإسلام أوفى الجزاء والإحسان .
6/2- واذا تجاوزنا الحرص الشديد من الشيخ محمد اسماعيل – علي المستوي الشخصي – في التمسك بأهداف الدين والتدين والسعي الدؤوب نحو العلا لطلب الاستقامة كما يريدها ربنا تبارك وتعالى ، فانه كان يريد لمن حوله من المسلمين أولوية التمسك بأساسيات الاسلام عند ممارسة شعائره .. ولهذا كان يدعو دائماً الي إسلام الوسطية في تعامله وتواصله مع الأخرين .
وكان الشيخ أبونوال رحيماً في دعوته عند إرشاد المقصرين في انفسهم للأخذ بشعائر الدين وعدم التفريط فيها قبل فوات الأوان ، وبخاصة مع أولئك المتأرجحين بين الإقبال والإدبار في ممارسة شعائر الدين ، ممن كانوا من أبناء المسلمين في الثورة الارترية . وكان يحرص علي كسب ودهم حتى يأخذون عنه متطلبات دينهم ، ويتدرج بهم في سماحة وإحترام لإشخاصهم .. وكان دائماً يظفر ببغيته منهم ولو بعد حين ، نتيجة لحواراته الهادئة بعيداً عن التعنيف أو الاستفزاز لمشاعرهم وخلفياتهم الفكرية. فجزى الله الشيخ أحسن الجزاء علي ما قدم وبذل في سبيل النصيحة وتبليغ الدعوة الاسلامية والتمكين لها من النفوس الحائرة .
6/3- كان الشيخ أبونوال يقبل علي الله بكل جوارحه ومشاعره عندما تحاصره المشاكل والأزمات والأهوال الذاتية أو العامة .. فعندما ينفذ الطعام ويزحف الجوع إلى البيت أو تحاصره المشكلات او الأمراض لأفراد اسرته يلجأ الى الله ، فيبادر بتقديم الصدقة من الموجود لإطعام الفقراء والمحتاجين لطلب اليسر وانفراج الكرب .. وكثيراً ما كانت تخرج من بيته مواعين ( الزلابية ) أو نحوها الى المسجد والفقراء والمحتاجين لطلب النجدة من الله ، وبالفعل كانت تنفرج الكرب والمشكلات باذن الله ورحمته وتوفيقه ، وكان هذا دأبه في بيته .
6/4- وفي مجال معاناة المقاتلين والعاملين في الثورة الارترية يذكر المناضلون الذين كانوا يرافقونه كثيراً من المواقف والأزمات التي كانت تنفرج عنهم لصلواته وتضرعه الى الله .
وأما نحن الذين كنا مع الشيخ ابي نوال أثناء فترة الإعتقال والسجن ، كانت وسيلتنا الي الله لقضاء حوائجنا وإطعامنا والتخفيف عنا آلام التعذيب وتجنيبنا لدغ الثعابين والعقارب - التي كانت تشاركنا السكنى في اقفاص الإعتقال - كانت وسيلتنا ، الطلب الي الشيخ محمد اسماعيل التضرع الي الله لحفظنا من كل أذى .. ومن فضل الله علينا لم يلدغ منا أحد ، كما أن قصف الطيران الاثيوبي لأكثر من مرة لمقرّاتنا المتنقلة لم نصب فيها بأذى ، رغم تمزيق زخات رشاشاتها لملابسنا .. وكل السلامة والحفظ بعد الله وعنايته ، كان لتوسلات وتضرع الشيخ محمد اسماعيل دور فيها .. لأنه كان أقرب الي الله منا جميعاً - نحن المعتقلين - لصدقه واجتهاده في العبادة والإتكال علي الله .
وأبعد من هذا كان الشيخ محمد اسماعيل يلجأ الي الله بدعوات عريضة يطلب فيها من الله الخلاص من كبير جلادينا وأن يرينا فيه عجائبه ، وكان يجهر بدعواته المخلصة لإزالت حكم الفئة الباغية من حزب العمل ، والله غالب علي امره ولكن أ كثر الناس لا يعلمون.
7- اعتذار .. ورجاء :-
7/1- وأخيراً إذ أكتفى بهذه الذكريات والانطباعات - بهذا القدر خشية الاطالة – أتوجه إلي إخواني المناضلين الارتريين ، الذين رافقوا فقيدنا الراحل العزيز المناضل المجاهد الشيخ محمد اسماعيل عبده ، في مرحلة النضال الوطني ومنعطفاته الكثيرة ، أن يترحموا عليه ويغفروا له اساءته وتقصيره نحوهم ، وأن يكتبوا عن ذكرياتهم معه .
كما أرجو من إخواني الدعاة الي الله من أبناء الحركة الاسلامية – بكل تيارتها وتوجهاتها المختلفة في الساحة الارترية – أن يترحموا علي فقيدنا الشيخ محمد اسماعيل عبده ، وأن يغفروا له اساءته وتقصيره نحوهم ، وأن يذكروا محاسنه وذكرياتهم معه .
أقول هذا ، لأنه ليس هناك من هو معصوم أو فوق الأخطاء أو التقصير بحق إخوانه أو المجتمع .. وعلينا أن لا ننسى بأنا كلنا خطاؤنا وخير الخطائين التوابون ، وخير الناس العافين عن الناس .
7/2- واسأل الله للفقيد العزيز ، أن يتغمده الله بواسع رحمته ورضوانه ، وأن يسكنه فسيح جناته مع النبين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ، وأن يلحقنا بهم يوم تحل أجالنا ونستقبل آخرتنا .. وانا لله وانا اليه راجعون .
وأسال الله العلى القدير أن يثبت اسرته ويؤجرها في مصابها ، وأن يخلفهم عنه بالخير العميم في الدنيا والآخرة . وكل الاسرة محل تقدير واحترام من الجميع ، فحرمه الفضلى كانت خير زوج له في رعاية أولاده وإكرام ضيوفه ، دون تفريق لعصبية أودين بينهم .
وأولاده النجباء / نوال ، ومواهب ، وزينب ، وهناء ، وعبدالرحمن ، وهدى / هم من تلك الأسرة العريقة والكريمة ، فهم ذرية بعضها من بعض ، فنسأل الله أن يجعل فيهم البركة وأن يكونوا خير خلف لخير سلف .. انه نعم المولى ونعم المجيب .
--------------- وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين ------------
حامد صالح تركي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق