الاثنين، 13 أكتوبر 2008

الراحل المقيم

بسم الله الرحمن الرحيم

الراحل المقيم : الشيخ/ محمد إسماعيل عبده
كفاح من اجل قضايا الوطن والمسلمين

ابوحذيفة على عبد العليم
05/10/2008م

عزاء واجب :
بدءا أعزى نفسي واخوتى في الحزب الاسلامى ا لارترى للعدالة والتنمية وكذا أسرة الراحل المغفور له بإذن الله ، أبو نوا ل ، سائلا المولى عز وجل أن يتغمده بواسع رحمته ، ويسكنه الفردوس الأعلى من الجنات ، وينزل الصبر وجميل العزاء على ذويه وإخوته ومحبيه ، ( إنا لله وإنا إليه راجعون ).
مدخل :
منذ تفتح عينا شيخ محمد إسماعيل عبده في مدينة صنعفى وحتى تسليم الروح إلى باريها ، ورد الوديعة إلى صاحبها ، بمدينة الخرطوم ، زمن طويل شارف على الثمانين عاما ، ترك خلاله سفر من الأعمال الجليلة ، وحياة كانت حافلة بالمنجزات والمآثر ، وعامرة بعظائم الأمور ، ومليئة بالتضحيات الجسام ، وكلها تنم عن شخصية عظيمة القدر ، عالية الهمة ، عز مثيلها ، وقل نظيرها ..
الأصل الطيب :
لقد ترعرع محمد إسماعيل عبده في أسرة متدينة ، تعنى بتدريس القرآن وتعمل من اجله ، فتشرب منذ النشأة الأولى بحب الدين ، والتمسك بأهدابه ، وكانت المحطة الثانية في مصر المحروسة ، حيث التحق بدعوة الإخوان المسلمين ، ونهل من معينها الدافق ، واعتنق مفهومها الشامل للإسلام ، هذا المفهوم الذى ظل مغروسا فى داخله كبوصلة توجه تصرفاته وتضبط سلوكه ، وتهدى عمله وسعيه فى الحياة ، فتشكل فكره بنسيجها ، وتلون بلونها الزاهي ، مما أهّله أن يحرر نفسه بقيم الدين ، ومن ثم سعى لتحرير شعبه بنفس القيم ، فكان فى طليعة شباب حزب الرابطة الإسلامية ، الذين تصدوا لوصاية المستعمر الانجليزى ، وأطماع الإمبراطورية الإثيوبية ، وانتظم فى الصف المعارض للاستعمار منذ الوهلة الأولى ، وفى تشكيلاته المختلفة وحتى اندلاع جبهة التحرير الإرترية ، والتى كان فى قيادتها الثورية ، وتدرج فى مناصبها حتى رئاسة جهازها القضائي ، قبل أن يغدر به امن حزب العمل الشيوعي ويودعه ورفيق دربه الشيخ حامد تركى ، غياهب السجون .
نضالات ومجاهدات الفقيد الحي: نضالات ومجاهدات شيخ محمد إسماعيل فى صفوف جبهة التحرير الإرترية لم يكن فى اتجاه المستعمر الاثيوبى فحسب ، بل كذلك على الصعيد الداخلي للثورة حيث أصبحت نهبا للأفكار اليسارية والمتغربة والمنحرفة ، وطفقت القيادات التى لم يكن لها من الإسلام إلا اسمه ، فى نشر الانحلال والتفسخ والفساد باسم التقدمية وتحرير الإنسان قبل الأرض وغيرها من دعاوى باطلة ؟!
ناضل شيخ محمد إسماعيل مع زملائه من الوطنيين والشرفاء لمواجهة هذه الموجة الانحلالية فى الأفكار والاطروحات والممارسات ، وفى سبيل ذلك لاقى ما لاقى من صنوف العذاب والأذية ، وقضى بعض رفاقه نحبهم على هذا الدرب كالشهيد سعيد حسين وأخوته ، ممهدين الطريق لظهور الحركة الإسلامية على المسرح السياسي الارترى .
لقد تحمل شيخ محمد إسماعيل عنت سجون جبهة التحرير فى شموخ الرجال ، وإباء أتباع الرسالات ، وأنفة أصحاب القضايا ، ما انكسر ولا لانت له قناة ، ومن قبل جرب زبانية حزب العمل الوسائل الناعمة والمغريات المادية ، فما صادت حبالهم له شهوة ، ولا أوقعته شباكهم فريسة للغرائز البهيمية .. فضلا عن أن يلهث بنفسه وراء ملذات الفانية والمناصب التى يتهافت عليها الكثيرون ممن وصفهم بعض السلف ( ذباب طمع وفَََََرَاش نار ) ، وهكذا خاب مسعى زبانية حزب العمل ، وخسر كيدهم ، وانقلب الى نحرهم ، فلم يكن الشيخ – رحمه الله - صيدا سهل المنال كما كان بعض القيادات التى لم تستطع الفكاك من اسر هذه الشرذمة وخدمة أهدافها ، خوفا من إشهار كروت الضغط الأخلاقية فى وجوههم وإعلانها للملأ ، فظل هؤلاء المساكين من أسرى الشهوات أسرى لدى الفئة الباغية ( حزب العمل ) ينفذون مخططاتها رغم انفهم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
يحكى رفيق دربه ( الشيخ تركى ) عن طوافهم فى الريف الارترى ، ضمن عملهم فى محاكم جبهة التحرير باسطين للعدالة بين المتخاصمين ، وكيف كان الشيخ – رحمه الله – عالما بالأعراف السائدة ، والقوانين المعمول بها ، وما يتمتع به من صدر رحب ، وطول بال ، وأذن صاغية ، مكنت العدالة من أن تنجز ، وتحل النزاعات وتحسم الخصومات ، مما كان له أطيب الأثر فى استتباب الأوضاع واستقرارها .
ومن الغرائب اعتراض شرذمة حزب العمل البائد على صيغة وثيقة زواج وضعها الجهاز القضائي ، فقد رفض هؤلاء المارقين الصيغة الشرعية المعروفة لعقد الزيجات ( على كتاب الله وسنة رسوله ) ، كما رفضوا وضع البسملة على راس الوثيقة ، فلم يكن مثارا للدهشة أن تعقد الزيجات فى الثورة بإطلاق عدة رصاصات فى الهواء ، فهذه هى شريعتهم ومبلغ علمهم !!
وعندما انهزمت جبهة التحرير وهربت من وجه الجبهة الشعبية الى السودان ، انفك اسر الشيخ - رحمه الله – ومن كان فى معتقلات جبهة التحرير ، فلما امتلأت رئته بنسيم الحرية لم تتحرك ضغينة فى نفسه ، وترفّع عن الأحقاد كالنخلة السامقة ، فلم يسعى إلى انتقام أو تشفى ، واحتسب ذلك عند الله تعالى ، فى عفة لسان ، وحسن طوية ، ونقاء سريرة ..
لم تكن نفس الشيخ الكبيرة لتركن الى الدعة والراحة بعد خروجه من المعتقل ، فقد انخرط مع إخوانه فى الحركة الإسلامية الإرترية فى تأسيس عمل سياسي اسلامى بواجهته المعروفة ( منظمة الرواد المسلمين ) ، التى نشطت فى إصدار البيانات وإقامة الندوات وتبيين المواقف وإجلاء الحقائق للرأي العام .. وفى كل ذلك كان للشيخ نصيب كبير ، نسأل الله أن يجعله فى ميزان حسناته ، ويجزل له الثواب .
كان الشيخ - رحمه الله - ذا نزعة وحدوية ، يحب تأليف القلوب ، ورص الصفوف ، وحشد الطاقات الوطنية والإسلامية لأجل تحرير الإنسان الارترى وكرامته وصون حقوقه ورفاهيته .. بالجملة كان يرى التوحد من اجل كافة القضايا الوطنية والإسلامية ، ضرورة دينية ووطنية .
فقد قاد الشيخ ابونوال الجهود الوحدوية مع الجماعات الإسلامية وهو على رأس منظمة الرواد المسلمين ، حتى تكللت الجهود بالتآم شمل الاسلامين فى حركة الجهاد الاسلامى الارترى ، التى أصاب ظهورها أعداء الداخل والخارج بالذعر ، فلم يهدأ لهم بال ولم يستقر لهم قرار حتى رأوها منشقة الى شقين عاد كل منهما الى مشاربه الفكرية الأولى !! ونشهد لولا حكمة الشيخ وأفراد القيادة معه ، بعد لطف الله ، لسالت الدماء مدرارا ، خاصة مع تهور وتعنت الطرف الآخر .
وعملنا معا :
لقد زاملت الشيخ – رحمه الله – فى القيادة التنفيذية للحركة بعد الانشقاق وكان حينها نائبا لأميرها ، وللتاريخ أسجل هنا ، انه – رحمه الله – كان ذو عقل راجح ، ورأى سديد ، يصغى باهتمام ، ولا يقطع أمرا دون استشارة ، رجّاع الى الحق ما استبان له ، سهل الجانب لا صلدا متحجرا ، يؤثر الوفاق والإجماع ما وجد اليه سبيلا ، نزّالا عند رأى الجماعة ، والشورى عنده ملزمة ، كما قررتها الحركة ..
كان الشيخ ابونوال يعامل الناس بقلب مفتوح ، لا تحركه النزوات العابرة ، ولا ينحصر داخل فكره الخاص وهو يخاطب الآخرين ، يتلمس الاعذارللمخطئين ، ولا يتربص بهم بل يأخذ بأيديهم إذا تعثروا ، ومن فضائله ودلائل أخلاقه اعترافه بفضل إخوانه ، والإشادة بمواهبهم ومواقفهم ، إن كبير القدر لا يصغره تنويهه بقدر غيره ، بل يزيده عظمة ، ويرفعه مكانا عليا .
لقد كان للفقيد العزيز أسلوب مرتب فى تسجيل الوقائع والأحداث ولا يترك شاردة ولا واردة إلا وقيدها بالكتابة ، طريقته فى التعامل مع المفكرة فريدة ، يرقمها بأرقام متسلسلة ، ويدون الحدث والمعلومة بحسب تاريخها، ويعمل لها فهرست ، لسهولة الوصول الى المعلومة او الواقعة المدونة عند الحاجة إليها ، وذلك بخطه الأنيق وأسلوبه الجزل ، فكانت مفكرته المرجع والفيصل فى كثير من الأمور والقضايا ..
تمتع الشيخ ابونوال بذاكرة متقدة ، اختزنت الكثير من الوقائع والأحداث ، يذكر تفاصيلها دون أن تشرد منها شاردة ، وكانت له حلقات متسلسلة عن تاريخ الثورة الإرترية نشرت فى دوريات الحركة ، حوت معلومات غابت عن كثير ممن تصدى لكتابة تاريخ الثورة ، أوغفل عنها ..
وعندما اختير لرئاسة مجلس شورى الحزب الاسلامى الارترى للعدالة والتنمية ، كان بوقاره وحلمه وحسن إصغائه ، سكينة تحف المجلس ، وطمأنينة تملأ القلوب ، وعدالة فى توزيع الفرص ، وحكمة فى التوفيق بين الآراء ، مما مكنه من إدارة دفة المجلس بحنكة ورشاد ، فكانت اعوص المسائل واعقد المشاكل تنحل عقدها ، ويهدى الله فيها الى الصواب ، وتجتمع الآراء أو تكاد فتخرج القرارات على هذا المنوال ، وسمات الرضي تظلل الجميع .
أقول هذا وتقفز الى مخيلتي دعواته المباركات عقب ختام كل جلسة من جلسات مجلس الشورى ، والدموع تخضب اللحى ، والنفوس مفعمة بروح الأخوة الإسلامية ، ومتيقنة من نصر الله وان المستقبل لهذا الدين ، فكانت تلك الدعوات والابتهالات الزاد الذى يتزود به الأعضاء فى مسيرتهم القاصدة الى الله تعالى .
كان الشيخ ابونوال – رحمه الله – شغوفا بالقراءة والإطلاع ، فالقراءة الكثيفة فى شتى مناح الفكر البشرى لمعرفة الحياة والمؤثرات فى جوانبها المختلفة ، شكلت ثقافته وأصبحت له خلفية قوية كداعية وسياسي وادارى ومفكر .. ولا غرو أن للشيخ باع طويل فى العلوم الشرعية والسياسية والقانونية والتجارية والإدارية ..
الشيخ محمد إسماعيل رجل دعوة مخلص لدعوته ، متجرد لها ، عاش بها ولها ، كانت اكبر همه ومحور فكره وعمله ، ولهذا ينفذ كلامه الى شغاف القلوب ، فيلهبها بمشاعر اليقين والحب ، ومعاني الإيمان والإحسان ، وأشواق التمكين لدين الله فى الأرض ، ليعبد الله وحده بلا شريك ولا نديد ،
لقد وهب الشيخ عمره للإسلام ، ونذر له فكره وقلبه ، ولسانه وقلمه ، ونضاله وجهاده ، وخاض معارك حياته تحت راية الإسلام ، رافضا كل راية جاهلية ، باى اسم ظهرت وتحت اى عنوان تزينت للناس ، متخذا شعاره ( إن صلاتي ونسكى ومحياي ومماتي لله رب العالمين ..) ، ولم يركض وراء مال أو جاه ، فجاءه الجاه والشهرة الطيبة والسمعة الحسنة ، بفضل الله وبركة الدعوة .
ولا ريب إذا اقتربت من الشيخ ابونوال وعايشته عن كثب ، وجدت ملأ اهابه رجلا عميق الربانية ، دافق الروحانية ، عامر القلب بخشية الله ، غزير الدموع إذا تذكر الآخرة ، دائم التلاوة لكتاب الله عز وجل ، عميق الحب لله ولرسوله ، صلى الله عليه وسلم ، صّوام فى الهجير ، قوّام فى الليل ، يجد نفسه فى الهزيع الأول من الليل ، يتلذذ بنفحات الأسحار ، يناجى ربه ، يشكوه بثه وحزنه ، ويدعوه المغفرة والرضوان ، يتبتل ويضرع الى الحي القيوم ، متمثلا أبيات ابن الرومى :

تتجافى جنوبهم عن وطىء المضاجع * كلهم بين خائف مستجير وطامــــــــــــع
تركوا لذة الكرى للعيون الـهـواجــــع * لو تـراهـم اذا هـم خطــروا بالأصـابـــع
وإذا باشروا الثرى بالخدود الضوارع * واستهلت دمـوعــهم فائضـات المدامــع
ودعوا يا مليكنا يا جميل الصنـائــــــع * فأجيبوا إجابـة لم تقـع فى المسـامــــــــع
ليس ما تصنعونـه اوليـائـى بضـائـــع * تاجر ونى بطاعتي تربحوا فى البضائـع
وابذلوا لى نفوسكم إنها فى ودائعي


بفقدنا للشيخ ابونوال فقدنا نفس يذكرنا بالصحابة والسلف الصالح ، فقد كان رحمه الله امة لوحده ، نستظل بظله عند النوازل ، ونرجع إليه عند اشتداد الأمور ، ونفيء إليه فى الملمات ، كما قال الشاعر :
والناس ألف منهم كواحد وواحد كالألف إن أمر عنى
فجزى الله عنا الشيخ ابونوال خير الجزاء ، وأغدق عليه من رحماته ، ورزقه صحبه أنبيائه وأوليائه ، انه جواد كريم ، ورب غفور رحيم ، سميع مجيب الدعوات ..

وبرغم فقدنا الجلل إلا أننا لا نقول إلا ما يرضى الرب ، فلله ما أعطى ولله ما اخذ ، فاللهم اجعل البركة فى عقبه وفى إخوانه وفى العمل الاسلامى ، واخلفنا فى مصيبتنا فيه خيرا ، ولا تفتنّا بعده ولا تحرمنا أجره واغفر اللهم لنا وله ، وثبت أقدامنا من أن تزل عن طريقه ، حتى تجمعنا به عند مستقر رحمتك فى بحبوحة الجنة ، وألهمنا وأسرته الصبر وحسن العزاء ، (إنا لله وإنا إليه راجعون ).

المكلوم بفقدك يا أبا نوال
أبو حذيفة على عبد العليم
كسلا فى : 5/10/2008م

ليست هناك تعليقات: